وقوله: [وتلزم بالقبض بإذن واهبٍ] القبض يختلف بحسب اختلاف الأشياء، والأصل عند العلماء رحمهم الله -وهي قاعدة نبهنا عليها في المعاملات- أن كل شيء اشترطه الشرع ولم يضع له قيوداً معينة وأطلقه؛ فإنه يُرجع فيه إلى عرف الناس.
فالقبض ليس في الكتاب والسنة تحديد لضوابطه وما يُحكم به، ولذلك يقول العلماء: يُرجع في القبض إلى العرف.
فكل ما سماه العرف قبضاً حكمنا بكونه قبضاً.
فمثلاً: في البيوت والعمائر والمساكن والعقارات، يتمثل القبض في إعطاء المفتاح، ويخلِّي بينه وبين العمارة أن يفتحها، فحينئذٍ لو لم يُمْكِنْه أن يقبض العمارة فهل يستطيع أن يقبضها بيده؟ لا يمكن، هذا مستحيل.
فنقول: القبض في البيوت والدور والمساكن والمزارع بالتخلية، وهذا نص عليه العلماء.
فإذا مكَّنه من مفاتيح المزرعة والدار والعقار، وقال له: وهبتك مزرعتي، وأعطاه المفاتيح وخلى بينه وبينها، فقد تم القبض.
والقبض -مثلاً- في السيارة في أعرافنا اليوم: أن يعطيه مفاتيحها ويخلي بينه وبين ركوبها، فإن ركبها وأدار محركها، فلا إشكال في أنه قد قبض.
والقبض في الطعام يكون قبضاً حقيقياً، فلو أنه وهبه صاعاً فليأخذ الصاع وليقبضه، إذ لا بد فيه من الحيازة، فإذا حازه حكمنا بثبوت القبض.
ويستوي في ذلك أن يقبض الموهوبُ بنفسه أو يقبضه وكيلُه نيابةً عنه، فيقول: يا محمد! اقبض عني السيارة، أو خذ السيارة من فلان، أو خذ هديتي التي أعطانيها فلان، فإذا قبض وكيله نُزِّل منزلة الأصيل؛ لأن القاعدة: أن الوكيل مُنَزَّل منزلة الأصيل.
يكون القبض في الأشياء العادية بإمساكها، فالقلم يأخذه ويمسكه ويضعه في جيبه أو حقيبته.
ففي هذه الأحوال كلها يختلف القبض بحسب اختلاف الأشياء الموهوبة، وما جرى العرف باعتباره قبضاً.
ومن هنا نص العلماء -رحمهم الله- على أن القبض في المبيعات يختلف بحسب اختلافها، ويُحتكم إلى العرف في تحديد ضابط القبض، حتى يحكم القاضي والمفتي بثبوت الهبة والهدية إذا تحقق وجوده.
لكن الشرط في القبض أن يكون بإذن الواهب.
فالقبض له صورتان: - الصورة الأولى: أن يأذن الواهب للموهوب له بالقبض، فيقول له: وهبتك سيارتي، خذ هذه المفاتيح.
ويرمي مفاتيحها إليه.
- أو: خذ قلمي هذا، أو وهبتك قلمي، أو كتابي، ويعطيه إياه.
فإذا كان القبض بإذن من الواهب فالإجماع منعقد على أنه قبض معتبر.
لكن لو أن القبض بدون إذن الواهب، كرجل وهب سيارة، فقام الموهوب له وأخذ مفتاح السيارة بدون علم الواهب، وركبها وقادها، ثم رجع الواهب عن هبته، فإننا نقول: الهبة غير لازمة؛ لأنه لم يقع القبض المعتبر بإذن الواهب.
إذاً: يشترط في لزوم الهبة: القبض، وهذا القبض يختلف بحسب اختلاف الأشياء الموهوبة.
ويشترط أيضاً أن يكون بإذن الواهب، فلو قبض الموهوب له بدون إذن الواهب لم يكن قبضه مؤثراً.
قوله: [إلا ما كان في يد مُتَّهِبٍ] في الحقيقة هذه المسألة فيها خلاف بين العلماء رحمهم الله؛ فبعض العلماء يقول: يشترط القبض بإذن الواهب ولو كان الشيء في يد المُتَّهِب.
مثال ذلك: جاءه وقال: أريد السيارة أذهب بها إلى مكان.
فقال له: خذها.
فذهب بالسيارة وقضى بها حاجته، فلما جاء يردها قال: وهبتُكها، وهي في يده، فهل يُستدام حكم القبض ويكون كأنه قبض مستأنف، فتكون السيارة له مِن كونه يقول له: خذها، وهبتُكها.
أو جاء بالقلم يكتب به، ثم جاء ليرده فقال له: وهبتُكَه.
فأخذ القلم ووضعه، ولم يرده إلى صاحبه.
أو جاء وقال له: يا فلان! إني استعرت منك الكتاب وأريده مدةً أطول، فقال: هو هبة لك، فقال: قبلتُ؟ فهل يُشترط أن يرده ويقبضه مرة أخرى حتى يفرق بين اليدين: اليد الأولى واليد الثانية؛ لأن اليد الأولى: يد عارية، واليد الثانية: يد تمليك.
فالأولى: تكون له يدٌ على سبيل التمليك للمنفعة، وأما الثانية: فتمليك للعين والمنافع.
فبعض العلماء يقول: إنه يشترط أن يقع القبض حتى ولو كان في الشيء الذي تستدام فيه اليد، كما لو أعطاه داراً يسكنها شهراً، ثم في نهاية الشهر قال: وهبتُها لك، أو أعطاه سيارة ليحمل عليها متاعه، ثم قال: وهبتُها لك.
فإنه يُحكم بثبوت اليد الأولى، ويكون في حكم من أقبض وأنشأ القبض.
وبعض العلماء يقول: لا بد أن يردها، ثم بعد ذلك يعطيه إياها حتى يتحقق القبض المشترط.
ولا شك أن إحداث القبض ورد العين ثم حصول القبض على الصفة المعتبرة أسلم وأفضل وأبرأ خروجاً من الخلاف.
فائدة الخلاف: لو أن رجلاً مكن شخصاً من عمارة ليسكنها شهراً ثم وهبه له، ثم توفي الواهب.
فإذا قلنا: يشترط أن تسترد ويَقْبِض الواهب عمارته ثم يُقْبِض الموهوب له بعد ذلك بإقباض جديد، فإن لم يحصل هذا الأمر واعترض الورثة فإن الهبة تلغى، وتكون في حدود الثلث، حكمها حكم الوصية إن كانت في مرض الموت ونحوه.
أما إذا لم نشترط ذلك الشرط، فإنه يملكها الموهوب له، ولا يؤثر طَرَيان الموت بعد ذلك.
قوله: [ووارث الواهب يقوم مقامه] أي: يقوم مقام الواهب في التمكين وحكم الهبة؛ لأن الورثة يأخذون حكم مورثهم، ولذلك جعل الله الاستحقاقات للوارث مكان مورثه.