Q كيف نجمع بين هاتين القاعدتين: (قضايا الأعيان لا تَصْلُح دليلاً للعموم) و (العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب)؟
صلى الله عليه وسلم اختصاراً: (العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب) أي: إذا نزلت آية في كتاب الله، أو حكم عليه الصلاة والسلام بحكم وكان في حادثة معينة، وجاء لفظ الآية ولفظ حكمه عليه الصلاة والسلام عاماً فإن العبرة بعموم لفظه لا بخصوص سببه، الذي من أجله جاءت هذه الحادثة.
فمثلاً: قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة:196]، هذه الآية الكريمة -كما في الصحيحين- نزلت في كعب بن عجرة رضي الله عنه وأرضاه حيث قال: (حملت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والقمل يتناثر على وجهي، فقال عليه الصلاة والسلام: ما كنتُ أُرَى أن يبلغ بك الجهدُ ما أَرَى.
ثم قال له عليه الصلاة والسلام: أطعم فَرَقاً بين ستة مساكين أو صم ثلاثة أيام أو انسك نسيكة) أي: اذبح ذبيحة.
هذا اللفظ الذي جاء في الآية الكريمة عام، {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً} [البقرة:196]؛ ولكن السبب خاص؛ لأن كعب بن عجرة رضي الله عنه فرد من أفراد الأمة والحكم نزل له خاصاً وبسببه.
فنقول: العبرة بعموم اللفظ، أي: لفظ الآية، لا بخصوص سبببها.
وهكذا قضية المرأة لما جادلت رسول الله صلى الله عليه وسلم في زوجها رضي الله عنها وأرضاها، واشتكت إلى الله، فنزلت آية الظهار، فآيات الظهار وكفارة الظهار نزلت بسبب خاص وهي قضية ثعلبة رضي الله عنه لَمَّا ظاهَر من امرأته؛ لكن لفظها عام، {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ} [المجادلة:2].
فهذا عام ويأخذ حكم العموم، فـ (العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب).
الخلاصة: هذه القاعدة الأولى تدل على أنه ينبغي علينا في التشريع أن نجعل الألفاظ العامة عامةً للأمة، وتشمل جميع الأمة، إلا ما خصة الشرع وأخرجه من هذا العموم.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ} [البقرة:21]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة:104] هذا كله من ألفاظ العموم، {مَنْ كَانَ مِنْكُمْ} [البقرة:232]، {وَعَلَى الَّذِينَ} [البقرة:184] هذه كلها عامة.
وإذا نظرنا إلى هذه القاعدة، فإنه يشترط فيها طبعاً أن يكون هناك لفظ عام، فإذا جاء اللفظ خاصاً ومخاطَباً به المكلف بنفسه فهذا شيء آخر.
أما القاعدة الثانية: (قضايا الأعيان لا تَصْلُح دليلاً للعموم) فهذا النوع -في الحقيقة- فِعلاً يُشْكِل.
(قضايا الأعيان): القضية التي وقعت لصحابي بعينه، أو صحابية بعينها، لا تصلح دليلاً للعموم.
لما وقعت قضية اليهودي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشهد خزيمة بن ثابت رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، جعل النبي صلى الله عليه وسلم شهادته له بالدرع بشهادة رجلين، وحكم بها، مع أن الله تعالى فرض علينا في الحقوق المالية وما في حكمها شهادة الرجلين من الرجال أو عن كل رجل امرأتان.
فقبل النبي صلى الله عليه وسلم شهادة رجل واحد؛ لكنها في قضية معينة، وهي قضية خزيمة بن ثابت وقال له: (ما الذي حملك على ذلك؟ قال: أصدقك في وحي السماء ولا أصدقك في درع!) أي: إذا كنت في وحي السماء أصدقك أفلا أصدقك في درع؟! فشهد له بذلك، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم شهادة خزيمة بشهادة رجلين.
لكن هل كل من صدق النبي صلى الله عليه وسلم نجعل شهادته بشهادة رجلين؟ نقول: لا.
(قضايا الأعيان لا تَصْلُح دليلاً للعموم).
هنا يتنازع العلماء ويختلفون: هل هذا الحديث نجعله قضية عين أو نجعله عاماً؟ ومن أمثلتها: مسألة رضاع الكبير.
سالم مولى أبي حذيفة صحابي تربى عند أبي حذيفة وزوجته، ونشأ منذ الصغر عندهما، ولما كبر أصبح أجنبياً، وهو مولى من موالي أبي حذيفة رضي الله عنه وأرضاه، فلما أخذت أبا حذيفة الحمية، جاءت زوجته تشتكي إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: (ما كنا نعد سالماً إلا كواحد منا -يعني: كأولادنا- وإنه حدث ما ترى -أي: أنه أصبح أجنبياً- فقال صلى الله عليه وسلم: أرضعيه خمساً تحرمي عليه).
هذا الحديث من العلماء من يقول فيه: قضية عين لا تَصْلُح دليلاً للعموم، فليس غيرُ سالم مشاركاً لـ سالم في هذا الحكم، فلا يصح للكبير أن يرتضع من امرأة.
ومنهم من قال: لا.
بل الحديث أصل في أن رضاع الكبير يؤثر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أرضعيه خمساً تحرمي عليه)، فجعل المحرمية مركبة على الرضاع، والرضاع أثبت الشرع به المحرمية، فإذا ثبتت للصغير ثبتت للكبير؛ لأن النص اعتبرها للكبير.
فعندي أصل أن الرضاع يوجب التحريم، كأنه يقول: جعلته محرماً لك بالرضاع، وهذا يدل على أن العبرة بوصول اللبن، يستوي فيه الكبير والصغير؛ لأنه كما أثر في الصغير سيؤثر في غيره.
فكل من ارتضع من امرأة أو شرب لبن امرأة خمساً حرُمت عليه.
هذا رأي من يقول: إنها ليست بقضية عين؛ لأنه يرى أن العلة صالحة للتعميم.
والذين توسطوا قالوا: قضية سالم فيها حرج ومشقة، وهناك أصل عام: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة:233]، قد جعل أمد الرضاعة في الحولين، وقال عليه الصلاة والسلام: (إنما الرضاعة من المجاعة) أي: أن الرضاعة في الصغر، وقال: (ما أنشز العظم وأنبت اللحم)، وهذه كلها أحاديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم بينت أن الرضاعة تنشز العظم وتنبت اللحم، وهذا يكون في الصغر لا في الكبر.
إذاً: كيف يجعلونها قضية عين؟ من فوائد المشايخ رحمة الله عليهم أنهم ضبطوا قضية العين أن يكون هناك أصل يعارضها، فالأصل عندنا أن الرضاعة للصغير، فلما جاءت الرضاعة للكبير على خلاف الأصل استثنيت وصارت قضية عين وما في حكمه، بحيث تقول: من كان مثل سالم فله أن يفعل مثل فعل سالم.
وهذا -والله- تطمئن إليه النفس؛ لأن الكبير كابن الخال أو العم إذا نشأ في بيت خاله أو عمه، ويرى أن زوجة خاله أو عمه كأمه، ينشأ عنده شعور أنه ينظر لها بهذا المعنى، كأنها أمه وكأنه والده، فتبعُد الفتنة.
لكن لا يؤتى بشاب ويرتضع من شابة فإنه لا يؤمن أن يقعا في الحرام، ولذلك يُنْظَر إلى مقتضى الشرع؛ أن المرأة تحرجت من كون هذا كواحد من أولادها، وأنه كان بينهم من الود والتواصل والإحسان لهذا الولد ووجود الحرج للزوج، فجاء حكم الله عزَّ وجل رحمةً وتيسيراً، فنقول: كل من نشأ في بيت وتربى فيه وهو ينظر إلى هذه المرأة كأم، وينظر إلى هذا الرجل كأب، كما يحدث في الأيتام وأبناء الجيران وأبناء العمومة والخَئولة ونحوهم، فإنه يمكن أن يرتضع من هذه المرأة أو من بنت المرأة حتى يصير محرماً لهذه المرأة؛ لأنه ينزلها منزلة الأم، فيتحاشى بناتها؛ لأنهن كأخوات له، والشعور والمعنى موجدان فيه.
إذاً نقول: هذه قضية عين.
فانظر كيف يحدث الخلاف بين العلماء في قضية سالم لأنه قال: (أرضعيه خمساً تحرمي عليه).
لكن كيف تطبق قاعدة (العبرة بعموم اللفظ ... ) ممن يقول بذلك في هذا الحديث؟ يقولون: لأن العلة دلت على التعميم، العلة هي وجود الرضاعة، كأنه يقول: المحرمية مرتبة على علة وهي الرضاع، وقد قال: (أرضعيه خمساً تحرمي عليه)، فصارت جملةُ (تحرمي عليه)، التي هي جملة حكمية، حكمتُ بالمحرمية لأنكِ أرضعتيه خمساً، وهذا كما ذكرنا يستوي فيه الصغير والكبير.
كذلك أيضاً الاشتراط في الحج والعمرة.
ضباعة رضي الله عنها أرادت أن تحج وهي مريضة، والأصل يقتضي أن المريض لا يحل من إحرامه من حيث الأصل؛ لأنه تعالى قال: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ} [البقرة:196]، فأوجب الله على المريض الفدية، فكيف يكون المرض عذراً في الفسخ، والأصل يقتضي إتمام الحج والعمرة؛ لأن الله يقول: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة:196]؟ فلما جاءت هذه المرأة وقالت: (إني أريد الحج وأنا شاكية) ذكرت في سؤالها أمراً لا يمكن اسقاطه، وهو قولها: (شاكية) معناه: أن عندها حالاً يصعب معه الحج، ومع ذلك تجشمت الحج مع وجود هذا العذر، بخلاف الذي طرأ عليه المرض بعد الدخول في الإحرام وإلزام نفسه.
فطائفة من العلماء توسطوا في هذا وقالوا: هذه قضية عين لا تصلح دليلاً على العموم، كل امرأة جاءت تحج تقول: حبسني حابس.
فإذا جاء عذرها ولت وتركت إحرامها لو كان هذا سائغاً.
وقضية ضباعة وقعت قبل الإحرام في ذي الحليفة؛ لأنها وقعت بالمدينة -وهذا بالإجماع- قبل خروجه عليه الصلاة والسلام إلى ذي الحليفة؛ لأنه قال: (أهِلِّي واشترطي)، وقد خاطَبَتْه في المدينة تسأله: هل تحج أو لا تحج؟ ووقع هذا في حجة الوداع، فإذا كان قبل الحج قال لها: (أهِلِّي واشترطي إن حبسك حابس) ولَمَّا جاء عليه الصلاة والسلام إلى الميقات - كما في الصحيح من حديث عائشة - قال: (أيها الناس! من أراد منك أن يهلَّ بحج فليهلَّ، ومن أراد منكم أن يهلَّ بعمرة فليهلَّ، ومن أراد منكم أن يهلَّ بحج وعمرة فليهلَّ) وما قال: فليشترط، مع أن الناس يحتاجون للشرط؛ لاحتمال أن يحدث طارئ، والمرأة قد يصيها العذر وقد يطرأ عليها شيء؛ ولكنه لم يذكر الشرط، فهمنا من هذا أن هناك معنىً في كون المكلف يحرم بالحج أو بالعمرة مع أنه مريض ولا يتحمل صعوبة النص الذي يُلزم بإتمام الحج أو العمرة على ما هو عليه.
ونقول: الأصل في كل مسلم أن يتم حجه وعمرته لقوله تعالى: {