أما بالنسبة للأركان التي تقوم عليها الهبة، فإنها تقوم على أربعة أركان: الواهب، والموهوب له، والشيء الموهوب، والصيغة، هذه الأربعة أشياء إذا وُجِدَت، وُجِدَت الهبة.
أما الواهب: فهو الشخص الذي يملك الشيء الموهوب، ويقوم ببذله وإعطائه للغير.
ويشترط فيه: أن يكون جائز التصرف، وذلك يتحقق بملكيته للشيء الذي يريد هبته، ويأذن له الشرع بالبذل والهبة.
وبناءً على ذلك يكون: مالكاً، حراً، رشيداً، بالغاً، عاقلاً.
فإذاً: لا بد من توفر هذه الشروط، فلا تصح الهبة من مجنون أو من صبي، أو من السفيه والمحجور عليه سواء كان لفَلَسٍ أو غيره، ولا يصح أن يهب شيئاً هو ملك لغيره، أو يهب شيئاً ليس بملك له أصلاً، أو لا تدخله الملكية، فإذا فعل ذلك فإنها لا تكون هبةً، ولا تسري عليها أحكام الهبة.
وأما بالنسبة للحرية فإن المملوك تقدم معنا أنه هو وما مَلَكَ مِلْكٌ لسيده، إلا أن يأذن له السيد بالتصرف فهذا مستثنى.
أما بالنسبة للشيء الموهوب: فيُشترط فيه أن يكون مالاً قابلاً للتمليك.
فقوله: (أن يكون مالاً) يخرج ما ليس بمال ولا في حكم الأموال، ومن هنا لا تصح هبة أعضاء الآدمي، وهي مفرَّعة على هذا الأصل؛ لأن أعضاء الآدمي ليست فيها ملكية، إذ مِن شَرْطِ صحة الهبة والعطية أن يكون الواهب مالكاً للشيء الذي يهبه.
فلو قال قائل: إن الله عزَّ وجل مكَّن الإنسان أن يستفيد من كليته أو يده أو رجله ونحو ذلك.
نقول: إن هذا التمليك على سبيل الإذن والإباحة، والتمليك معنىً زائدٌ على الإذن والإباحة، وهناك فرق بين أن يؤذن للشخص بأن ينتفع بالشيء ويرتفق به، وبين أن يُمَلَّك هذا الشيء بحيث يصح أن يبذله للغير.
مثلاً: المصالح العامة، كالمواقف ونحوها، هذه مأذون لك أن تنتفع بها شأنك شأن سائر الناس؛ لكن لا يصح أن تبيعها لغيرك؛ لأن الإذن بانتفاعك بها لا يستلزم ملكيتك لها، والله عزَّ وجل أذن للمخلوق أن ينتفع بجسده وهو ليس بمالك له، ومما يدل على ذلك أنه لا يجوز له أن يبيع نفسه، فلو كان مالكاً لنفسه لصح أن يبيع نفسه؛ وقد اتفق العلماء رحمهم الله على أن كل ما جاز بيعه جاز هبته.
وبناءً على ذلك: فالأعضاء ليست محلاً للملكية، وإنما هي من خلق الله عزَّ وجل الذي أذن للإنسان أن ينتفع بها.
هذا مذهب من يقول بعدم صحة التبرع بالأعضاء، ويقيم هذا على هذا الأساس الذي دلت عليه الأصول الشرعية.
ومما يقوي هذا: أن من يقول بالهبة وجواز هبة الأعضاء يقول: لا يجوز بيعها، وهذا تناقض؛ لأنه إذا أُذِن بالهبة فمعناه أن الهبة فرع على الملكية، ومَن مَلَك شيئاً جاز له أن يبيعه.
وهناك مسألة مهمة وهي أنه حتى ولو قيل: إن الإنسان يملك أعضاءه فإن هناك فرقاً بين الملكية والتمليك، فقد يكون الشيء ملكاً للإنسان ولا يصح أن يملِّكه للغير، ومن أمثلة ذلك: أم الولد، فإن الجارية إذا ملكها الإنسان بتمليك الله عزَّ وجل له، واشتراها وأصبحت ملكاً شرعياً له، ووطئها وتسرَّاها، فحملت وأنجبت وأصبحت أم ولد، فعلى القول بعدم صحة بيعها كما ورد في السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإنها حينئذٍ ملكٌ للإنسان لا يصح أن يُمَلِّكها للغير، ولذلك قال: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء:3]، وبالإجماع أنها ملكٌ له، ولذلك تَعْتِق عليه بعد موته.
ومن هنا مذهب من قال بعدم صحة هبة الأعضاء يفرِّعها على الأصول المقررة في الشريعة: أنه لا تصح الهبة إلا لشيء يملكه الإنسان، فالواهب يُشترط فيه أن يكون مالكاً للشيء الذي يهبه، فلا يصح أن يهب مال غيره.
أما الركن الثاني وهو الشيء الموهوب، فتشترط فيه شروط: أن يكون مالاً كما ذكرنا، وأن يكون مملوكاً للواهب أو مأذوناً له بالتصرف فيه.
وإذا قلنا: أن يكون مالاً، خرج ما لا قيمة له في الشرع، كالميتة والخمر والخنزير والأصنام، فهذه الأشياء لا تصح هبتها، ولذلك لو أنه أخذ حيواناً محنطاً غير مُذَكَّىً فإنه نجس وميتة، فلو وهبه، فإن هذا ليس بمحلٍ للهبة وليست بهبة شرعية.
وأما الموهوب له فهو الطرف الثالث الذي تصرف الهبة إليه، وهذا الطرف يشمل الصغير والكبير، والذكر والأنثى، والأمر في الموهوب له أوسع من الواهب.
وأما بالنسبة للصيغة فهي: الإيجاب والقبول.
الإيجاب قوله: وهبتُك سيارتي أو داري أو أرضي.
وأما القبول: أن يقول: قبلتُ الهبة، وسيأتي -إن شاء الله- بيانهما.
ويحل محل الإيجاب والقبول ما دل عليهما، فإذا جرى العرف بالدلالة على الهبة مثل ما يجري مثلاً في الزواج؛ يأتي الشخص بهدية ويحملها إلى صاحب الزواج أو الزوج ويعطيه هذه الهدية دون أن يتكلم، ويقبض الآخر هدية أخيه دون أن يقول الواهب: وهبتك، ويرد الموهوب له بقوله: قبلت هديتك، لكن جرى العرف أن هذا الفعل من المعاطاة دال على الهبة والهدية.
ولا شك أنه ينبغي أن يراعى في الشيء الموهوب والهدية أن يكون معلوماً، ولا تصح هبة الأشياء المجهولة، وسيأتي إن شاء الله تفصيل هذه الشروط وبيانها.
يقول المصنف رحمه الله: [باب الهبة والعطية] أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملةً من الأحكام والمسائل التي تتعلق بالهبات والعطايا.