بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه، ومن سار على نهجه إلى يوم الدين.
أما بعد: فيقول المصنف -رحمه الله-: [باب الهبة والعطية] هذا الباب قصد المصنف -رحمه الله- أن يبين فيه المسائل والأحكام التي تتعلق بالتبرعات، ولما كان الوقف نوعاً من أنواع التبرع ناسب أن يذكر أحكام الهبة والعطية بعده، فمناسبةُ باب الهدية والعطية لباب الوقف من هذا الوجه ظاهرةٌ.
وقد دلت النصوص في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم على مشروعية الهبة والعطية، فالآيات التي وردت في استحباب الإحسان وبذله إلى الناس، والآيات التي دلت على الترغيب في المعروف، وإسداء الخير إلى الناس من حيث الأصل، تعتبر دالةً على مشروعية الهبة والعطية، خاصةً وأن الهبات والعطايا قد يراد بها وجه الله عزَّ وجل حينما يهب المسلم لأخيه المسلم شيئاً مما يملكه حتى تزداد المحبة بينهما، وتقوى أواصر الأخوة ووشائج الإسلام التي تربط بين المسلم وإخوانه، فتكون الهبة والعطية عبادةً من هذا الوجه.
وأما بالنسبة للسنة فقد دلت أحاديث كثيرة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم على مشروعية الهبة، بل رغَّب عليه الصلاة والسلام فيها كما في حديث السنن عن أبي هريرة وعائشة وعبد الله بن عمرو وعبد الله بن عمر رضي الله عن الجميع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تهادوا تحابوا).
فقد رغب النبي عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث في الهدية وإعطاء المسلم لأخيه المسلم على سبيل المحبة، وبين حسن العاقبة في ذلك، وأنها تزيد من المحبة والألفة، وهذا مقصود شرعاً، فكل ما يدعو إلى قوة المحبة بين المسلمين مندوب إليه وتحصيله مرغوب فيه.
وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري أنه قال: (لو أهدي إلي كراعاً لقبلت)، وهذا من تواضعه عليه الصلاة والسلام حيث بين أنه لو كانت الهدية له عليه الصلاة والسلام كراعاً لقبلها عليه الصلاة والسلام ولم يردها، وهذا يشير إلى أن الهدايا تختلف باختلاف الناس، فلا تحتقر الهدية، خاصةً إذا جاءتك من الضعيف الفقير والذي ليس عنده طَوْل ولا عنده مال، فتعلم أن المقصود هو التودد إليك والمحبة، فلا تكسر له خاطراً، بل تجبر بخاطره، وتقبل هديته، ولو كانت شيئاً يسيراً، وفي الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تحقرنَّ جارةٌ لجارتها ولو فِرْسن شاةٍ)، وهذا يدل على فضل العطية والإحسان خاصةً من الجار لجاره.
حتى كان بعض العلماء رحمهم الله يقول: يا ليت كل مسلم كلما مرت فترة أو مر زمان يسأل نفسه: هل قدَّم لجاره شيئاً؟! كذلك أيضاً ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قَبِل الهدية حتى من الكافر، كما في قصة المقوقس.
وثبت عنه عليه الصلاة والسلام كما في الحديث الصحيح أنه أهدى إلى النجاشي رحمه الله، وتوفي النجاشي قبل أن تبلغه هدية النبي صلى الله عليه وسلم.
لأجل هذا أجمع العلماء رحمهم الله على مشروعية الهدية والعطية؛ لأن سنةَ النبي صلى الله عليه وسلم وهديَه دالة على مشروعيتها، بل قد جاء في صفته عليه الصلاة والسلام في الكتب السماوية أنه يقبل الهدية ويرد الصدقة.
وقال العلماء رحمهم الله: إن الهدية مشروعة لما فيها من جلب المصالح ودرء المفاسد.
أما المصالح التي تحققها الهدية فمن أعظمها أنها تزيد المحبة، كما قال عليه الصلاة والسلام: (تهادوا تحابوا).
وأما درء المفاسد فإنها تقطع سوء الظنون، وتزيل من النفوس الإحَن والشحناء، وكذلك ربما أزالت الحسد وأطفأت ناره من القلب؛ لأن الإنسان إذا رأى أخاه في نعمة وحسده عليها، إذا بالمحسود يقدم هدية وعطية ويشارك ذلك الحاسد فيعطيه شيئاً، فإن هذا يكسر قلبه، ويطفئ نار الحسد التي في نفسه، نسأل الله السلامة والعافية.
إضافةً إلى أن الهدية إذا كانت إلى المحتاج والمسكين تكون قربة لله عزَّ وجلَّ وطاعةً لله سبحانه وتعالى.