قال المصنف رحمه الله: [فإن تغير بغير ممازجٍ كقطع كافورٍ].
سندخل الآن في تفصيلات، ولكن باختصار شديد فنقول: الماء الطهور إذا تغير بشيء ينتقل إلى حكم ما غَيَّره، هذه قاعدة عندنا، فالماء الطهور إذا تغير انتقل إلى الشيء الذي غيره، إن طاهر فطاهر وإن نجس فنجس.
وهنا سنذكر أموراً تغير الماء الطهور بصورة يصعب على المكلف أن يحترز عنها، فهذه يغتفرها الشرع، أو يتغير بصورة لا يمتزج فيها المغَيِّر مع الماء المغَيَّر، فهاتان حالتان: الحالة الأولى: أن يتغير ويكون تغيره بطريقة لا يمكن للمكلف أن يدفعها، وهي حالة المشقة والحرج، حيث يشق عليه أن يفعل ما يوجب انفصال الماء عن هذا الذي غيَّره.
والحالة الثانية: أن يتغير بشيء فيه، لكن ذلك الشيء لا يتحلل فيه، كأن تُلقي فيه قطعة جامدة فتجد رائحة هذه القطعة أو طعمها، ولكنها لم تمتزج مع الماء.
وكل هذا يعتبر فيه الماء طهوراً؛ ولكن يوصف بكونه مكروهاً أو غير مكروه كما سيذكر.
(فإن تغير بغير ممازج).
الممازجة: امتزج الشيءُ بالشيءِ إذا دخل بعضه في بعضٍ، حتى لا تكاد أن تفرّقَ بينهما، أكرمكم الله الآن البول لو سقط على الماء يمتزج معه امتزاجاً كلياً، والملح إذا ذُوّبَ في الماء يمتزجُ به امتزاجاً كلياً.
فإذا تغير بشيء لا يمكن أن ينفك عنه فهذه ممازجة كاملة؛ لكن لو ألقيت السمن داخل الماء هل يمتزج امتزاجاً كلياً؟ لا يمتزج، كذلك عندما تلقي قطع العود في الماء تجد طعمها فيه؛ لكن هل هذا العود تحلل في الماء؟ ما تحلل.
إذاً التغير عندنا له حالتان: إما أن يتغير تغيراً مستحكماً فهذا سنذكره إذا تغير إلى طاهر أو إلى نجس.
وإما أن يتغير تغيراً ناقصاً كأن يضع فيه شيئاً لا يمازجه.
فقال: (كقطع كافور).
الكافور معروف، فإذا أخذ الإنسان من هذا الكافور قطعة ورماها في الماء فإنه يجد طعم الكافور، لكن هل الكافور تحلل تحللاً كاملاً في الماء؟ لا.
فيقولون: هذا التغير ليس تغيراً حقيقياً وليس بتغير كامل.
قال رحمه الله: (أو دُهن).
قال رحمه الله: (أو دهن) الدهنُ لا يمازج الماء، إذا وضع في الماء تجده ينفصل عنه، ولو جئت تطعم الماء لوجدت طعم الدهن فيه، فهو قد تغير، فالماء فيه دهن لكنه لم يمازجه ممازجة كاملة.
صورة المسألة: عندك إناء ماء أردت أن تتوضأ به، فجاء أحد أبنائك ورمى فيه قطعة من العود، أو رمى فيه قطعةً من الكافور، أو جاء إلى علبة سمن أو زيت ورماها في هذا الإناء، فتغير الماء، فيرد السؤال حينئذٍ: درست وتعلمت أن الماء الطهور هو الباقي على أصل خلقته، فهذا الآن حين تغير هل هذا التغير مؤثر؟ يكون
صلى الله عليه وسلم أن هذا غير مؤثر، لكن يحكم عليه من ناحية الكراهة أو عدم الكراهة.
قال رحمه الله: [أو ملح مائي].
الملح: إما جبلي، وإما مائي.
والملح المائي: الذي يستخلص من الماء ويكون في الأراضي السبخة، يصب عليها الماء ثم يستخلص منها بطريقة معينة.
والملح الجبلي: هو عبارة عن معادن في الجبال يستخرج منها هذا الملح.
فقال: (ملح مائي) وخص المائي؛ لأنه لا يتحلل.
قال رحمه الله: [أو سخن بنجس كره].
مثلاً: رجل جاءَ إلى ماءٍ في يومٍ شديدِ البرد يريد أن يتوضأ أو يغتسل من الجنابة، فما وجد وقوداً إلا نجاسة -أكرمكم الله-، فجمع هذه النجاسة وأوقد النار فيها، ثم وضع إناء الماء على النجاسة، فاشتعلت حتى سخن الماء، فسخن الماء بالنجس.
فيرد
Q هل الماء المسخن بالنجس يعتبر نجساً؟ ومعلوم أن رائحة الوقود تكون في نفس الماء إذا سخن به، وهذا معروف، فالحطب إذا أشعلته على القدر أو على الإناء المفتوح تجد طعم الحطب فيه، فقد تسخن الماء بالنجس وتجد أنه ربما تأثر بهذا النجس، لكن هل هو تأثر حقيقي ممازج أم منفصل؟ منفصل.
وبناءً على ذلك قال رحمه الله: (كره).
فنريد أن نضبط شيئاً واحداً وهو: أن الماء الطهور تغير، ولكن هل هذا التغير كامل أو ناقص؟ تغير ناقص ليس بكامل، فهذا فقه المسألة.
لا يهمك أن تحفظ أنه تغير بدهن أو بكافور لا داعي لحفظ هذه الأشياء، ولذلك الذي ضر كثيراً من طلاب العلم أنهم يجمدون على الألفاظ، فيجمد على اللفظ: تغير بقطع كافور أو دهن، فإذا نسي الدهن والكافور ما يحسن الجواب.
وفقه المسألة هو في المخالطة والممازجة وجوداً وعدماً، المهم أن يتغير بشيء لا يمازجه، فلو سُئلت الآن عن نوع من المياه سقطت فيه مادة كيماوية لا تتحلل في الماء ماذا يكون جوابها؟ تقول: نص العلماء رحمهم الله على أن الماء إذا تغير بغير ممازجٍ أنه يكره، وهذا المذكور قد تغير فيه الماء بغير ممازج فهو مخُرَّج على ما ذكروه من المكروه.
إذاً الضابط عندنا: هو عدم وجود الممازجة.
وقوله: (كره) المكروه: هو الذي يثاب تاركه ولا يعاقب فاعله.
وبناءً على ذلك: إن تركت هذا الماء وتوضأت بغيره فأنت مثاب؛ لأنك تترك الشك إلى اليقين.
وما السبب في كراهية هذا النوع من الماء؟! عند العلماء قاعدة في المكروه وهي: الأشياء التي تتردد بين الحرام والحلال، فمذهب طائفة من المحققين من الأصوليين أنها تعطى حكم المكروه؛ لأنك لا تستطيع أن تقول: حرام؛ لأن الشرع حكم بالحرمة للذي فوقها، ولا تستطيع أن تقول حلال؛ لأن الشرع حكم بالحل للذي دونها، فأصبحت مترددة بين الحلال والحرام فتقول: هي مكروهة.
ومن أمثلة ذلك كما مثل الأصوليون رحمهم الله: إسبال الثوب إذا نزل عن الكعبين قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أسفل الكعبين ففي النار) فهو محرم، ثم ما فوق الكعبين: (أُزْرَةُ المؤمن إلى أنصاف ساقيه) مباح.
بقي الإشكال في الذي يوازي الكعبين هل هو مباح أو حرام؟ تقول: هو مكروه؛ لأنه ليس عندك دليل يحرم ولا دليل يبيح، وإن كان بعض العلماء يقول: الأصل الإباحة فيجوز له، ومذهب المحققين أنه يبقى بين مرتبة الحل والحرمة، وهذا الذي تجدُ بعض السلف دائماً يقول: أي شيء هذا؟ وينفض يديه، يكرهه كله ورعاً عن التحريم والحل، فيصفونه بالكراهة.
كذلك عندنا هذا الماء لم يتغير تغيراً كاملاً إن جئت تقول: الأصل أنه طهور فالعبادة صحيحة، ويجوز للإنسان أن يتوضأ به، وإن جئت تنظر إلى التغير غير الكامل فيه تقول: والله أنا أشتبه فيه، فلذلك لا هو بالحرام المحض المتغير تغيراً كاملاً، ولا هو بالسالم سلامة كاملة فقالوا: هو مكروه.
واختلف العلماء هل يكره مطلقاً أو يكره بشرط وجود غيره؟ الشرّاح على أن الكراهة مطلقةً، كيف؟! صورة المسألة: لو عندك إناء من الماء وقع فيه عود أو كافور أو دهن، وإناء ثانٍ ليس فيه كافور ولا عود بل هو باقٍ على أصل خلقته، فبعض العلماء يقول: أنا أحكم بالكراهة بشرط وجود البديل.
وبعضهم يقول: أنا أحكم بالكراهة مطلقاً وجد البديل أو لم يوجد، وهما مذهبان مشهوران للعلماء رحمهم الله.
وكل ما تقدم هذا يعتبر من باب التغير غير الكامل؛ لأننا قلنا عندنا طهور تغير تغيراً غير كامل، وطهور تغير تغيراً كاملاً لكن بشيء يشق التحرز منه.
وقد تكلمنا عما تغير تغيراً غير كامل، وسنذكر الآن ما يشق التحرز عنه أي الشيء الذي لا يمكن للإنسان أن ينفك عنه.