وقد وقع الوقف من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كما ذكرنا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وجاء كذلك عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه أوقف بئر رومة، فلما فعل ذلك أقره النبي صلى الله عليه وسلم، بل ندب إلى ذلك، وقال: من يشتريها وله الجنة، فاشتراها عثمان رضي الله عنه وأرضاه وجعلها صدقة على المسلمين.
وكذلك أيضاً أوقف الزبير بن العوام رضي الله عنه وأرضاه على ذرِّيته، وكانت له أموال كثيرة، فأوقف جملة من أمواله حتى جاء في بعض الآثار أنه أوقفها على بناته، وخص الإناث دون الذكور، وهو وجه لبعض أهل العلم رحمهم الله، ووجهه أن الرجل ربما يخشى على بناته من بعده الطلاق والضيعة، والرجل يستطيع أن يأوي إلى أي مكان، ولكن البنت لا تستطيع، فلذلك أجاز بعض العلماء -كما سيأتينا في مسائل الوقف- أن يَخُص بعض ذريته كالإناث، فيقول مثلاً: بيتي للمطلقة أو الأرملة من بناتي، وقد أثر ذلك عن الزبير بن العوام رضي الله عنه، وهو قول اختاره طائفة من أهل العلم رحمهم الله، فهذا صحابي جليل قد أوقف، حتى قال جابر رضي الله عنه وأرضاه كما في الرواية عنه: (ما من أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذو مقدِرة إلا أوقف في سبيل الخير).
وهذا يدل على فضل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحبهم للخير وحرصهم على الآخرة، ولذلك آثروا الآخرة على الدنيا، وهذا هو شأن الحكيم العاقل الموفق، فإن الله عز وجل إذا وهب العبد النعمة، وأراد أن يتمم له بركتها وخيرها وجه صرفه إياها إلى ما ينفعه في الآخرة، وسلطه على إهلاك ذلك المال في الحق وسُبُل الخير كما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الدنيا لأربعة نفر) وذكر منهم: من أعطاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق.
يعني: سلطه على إهلاك المال في طاعة الله عز وجل ومرضاته.