قال المصنف رحمه الله: [وما وجد معه أو تحته ظاهراً أو مدفوناً طرياً، أو متصلاً به كحيوان وغيره أو قريباً منه؛ فله] قوله: (وما وجد معه)، أي: إذا كان هذا اللقيط معه مال، حكمنا بملكيته للمال، وهذا ينبني على أن الصبي يملك، وقد اختلف الفقهاء: هل الصبي يملك أو لا يملك؟ إذا قلت: إن الصبي يملك، ففي هذه الحالة له يد على جميع ما معه من النقود، أو من اللباس، أو من الأشياء التي يجلس عليها، كالفراش ونحوه، وقد يكون فراشاً ثميناً، أو يكون على دابة غالية الثمن، فجميع ما يتصل به من المال، يحكم بكونه مالكاً له؛ لأنك إذا قلت: إنه لا يملك، فهذا المال يضم إلى بيت مال المسلمين؛ لأن صاحبه غير معروف، لكن لو قلت: إنه يملكه اللقيط، فهذا المال ينفق عليه.
فهناك فرق بين قولنا: إنه يملك، أو لا يملك، والحكم عند العلماء أنه يملك، وجرت العادة خاصة إذا كان اللقيط من الزنا نسأل الله العافية! وكانت أمه ثرية غنية، أنها تشفق عليه، وتضع مالاً كثيراً معه؛ لأنها تعلم أنه سينفق عليه سنوات، ومدة طويلة، فتضع المال بجانب الثوب الذي عليه، أو بين الثوب وبين صدره محمولاً معه، أو في محفظة مربوطة به، أو ملتصقة بثيابه، أو تضع النقود تحت الولد بينه وبين فراشه، بحيث لو جاء أحد يحمله رأى النقود، فجميع هذه الأشياء يحكم بكون اللقيط مالكاً لها، وإذا حكمت بكونه مالكاً لها، جاز الصرف منها مباشرة، وهل يفتقر إلى حكم القاضي أو لا يفتقر؟ إذا قلنا بالقول الأول: إنه يملك، فإنه يصح بيعها مباشرة إذا كانت أعياناً، ولم تكن نقوداً، ثم ينفق عليه منها، وإن قلنا: إنه لا يملك يرجع إلى القاضي، وينتظر حتى يحكم القاضي له، ويأذن له بالولاية عليه، ثم يأذن له بالتصرف فيما فيه مصلحته.
وقوله: (أو تحته)، أي: تحت الصدر مثلاً أو بينه وبين فراشه، فهذه الأموال التي وجدت معه أو تحته، أو في جيبه، أو متصلة به؛ نحكم بكونها له، بدليل الظاهر، ونحن ذكرنا أن الدليل يكون أصلاً، ويكون ظاهراًً، فهذه من أدلة الظاهر، فإذا وجدنا لقيطاً ووجدنا تحته نقوداً، أو وجدنا في جيبه نقوداً، فالظاهر من الحال أن وليه قد وضع هذه النقود لمصلحة هذا الصبي، وللقيام على شئونه، فنعمل بهذا الظاهر.
وأما المال المستتر الخفي: مثل النقود المدفونة تحته، فهذه فيها خلاف بين العلماء رحمهم الله، هل يحكم بكونها من ماله أو لا يحكم بكونها من ماله؟! وسيأتي بيان الحكم في هذه المسألة.
وقوله: (ظاهراً) بحيث يوجد دليل على الظاهر، والشريعة تحكم بالظاهر، ولذلك لو أن اثنين اختصما في بعير، أحدهما يركب في المقدمة، والثاني يركب في المؤخرة، فنحكم بكونه للذي في المقدمة؛ لأن ظاهر الحال أنه هو القائد، والقائد هو الذي يملك الدابة، ويتصرف فيها، وهكذا في زماننا لو اختصم اثنان في سيارة، أحدهما في مقعد السائق، والثاني في المقعد الخلفي، فإننا نحكم بالذي يقود؛ لأن الظاهر أنه مالك لهذا الشيء، وهكذا لو اختصما في شيء محمول، أحدهما يحمله، والثاني لا يحمله، فالظاهر يدل على أنه ملك للذي يحمله، فالظاهر تحكم به الشريعة، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: كما في الحديث الصحيح: (إنما أمرت أن آخذ بظواهر الناس)، وهذا يدل على أن الظاهر يُحْتَكَمُ إليه، فنحن إذا ظهر لنا أن مع الصبي نقوداً معلقة به، أو موضوعة في جيبه، أو موضوعة بجواره ملتصقة به، فإن هذا الظاهر يدلنا على أن هذه الأموال للذي وضعه، وقصد منها أن تكون لمصلحة اللقيط، فإذا قلت: إنها للقيط، فإنه يحكم بها له لما تقدم، أما لو لم تأخذ بهذا الظاهر، فإنه يصبح حكمه حكم اللقطة، فيصبح اللقيط له حكم، والمال الموجود معه له حكم آخر، والأول يعامل معاملة أحكام اللقيط والآدمي، والثاني -وهو المال الذي معه- يعامل معاملة اللقطة، والصحيح أنه ليس بلقطة، وإنما يؤخذ مع اللقيط ويكون ملكاً له.
وقوله: (أو مدفوناً طرياً) وذلك كما لو حمل اللقيط، ثم نبش الأرض تحته فوجد مالاً، فهل نحكم بأن هذا المال المستتر الباطن حكمه حكم الظاهر؟!! من أهل العلم من قال: لا يحكم إلا بما مع اللقيط أو ملتصق به، كأن يكون بجواره، أو قريباً منه، وهذا لا إشكال فيه؛ لأن الإنسان إذا جلس وضع رحله بجواره، ووضع متاعه بجواره، فما وجد بجوار اللقيط أعطيناه حكمه، والقاعدة تقول: ما قارب الشيء أخذ حكمه، فنحن نحكم للقيط بما قاربه؛ لأنه في حكم ماله وتابع له، لكن إذا كان مدفوناً تحته فليس بملك له، ونعتبره لقطة، ويأخذ حكم اللقطة، سواءً كان الحفر طرياً، أو كان غير طري.
ومن أهل العلم من فصَّل، وهو اختيار طائفة من العلماء، وممن اختاره القاضي ابن عقيل وغيره من فقهاء الحنابلة، فقالوا: إذا كانت الأرض التي تحت اللقيط هشة طرية، حديثة العهد بالنبش، وفيها مال؛ فإننا نعلم من دلالة الظاهر أنها موضوعة من أجل اللقيط، ويغلب الظن أنها للقيط، وحينئذ ينفق عليه منها، ويكون مالاً له، وأما إذا كانت يابسة غير طرية، فنبشت ووجد مال، فنحكم بكونه لقطة، وتأخذ حكم اللقطة.
وقوله: (أو متصلاً به) أي: كحيوان متصل به، كأن يكون مربوطاً بجواره، أو وجد متاع بجواره، كحقيبة فيها مال أو فيها ثياب له، ونحو ذلك.
وقوله: (أو قريباً منه) أي: أن القريب منه يأخذ حكم المتصل به كالسجاد التي يجلس عليها، والفراش التي ينام عليها والحافظة التي يوضع فيها، فكل هذا يكون متصلاً به.
وقوله: (فله)، أي: للصغير، فاللام للتمليك، والضمير عائد لهذا الطفل اللقيط، ويحكم بكونه مالكاً له.