قال رحمه الله: [وعهدة الشفيع على المشتري وعهدة المشتري على البائع].
العهدة أصلها من العهد، وإذا تعهد الإنسان فمعناه أنه قد أخذ على نفسه الميثاق بفعل الشيء أو تركه، والعهد من أعظم الأشياء وأصعبها، فالمسلم إذا قيل له: تعهد بشيء فليعلم أن الله سيسأله بين يديه عن هذا الشيء ولو كان من أحقر الأشياء {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} [الإسراء:34] وبالأخص إذا كان عهداً لله، ولذلك يقول العلماء رحمهم الله: ما عاهد أحد ربه فنكث عهده إلا ابتلي بالنفاق إلا أن يرحمه الله برحمته، ولذلك قال تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [التوبة:75 - 77] فهذا يدل على عظم العهد، إذا قيل لك: عهد الله أن تفعل، عهد الله أن تترك، فإياك أن تقبل هذا العهد إلا أن تضطر إليه! إلا أن يتوب الإنسان من قلبه فيتوب الله عز وجل عليه، فإن الله عز وجل قد تاب عن الشرك الذي هو أعظم الأشياء، لكن الشاهد أن العهد أمره عظيم.
فالعهد أصله الميثاق، لكن العهدة هنا المراد بها ضمان السلعة، وهذه المسألة في الحقيقة كانت في القديم تباع بعض الأشياء التي لا يمكن للمشتري أن يعرف حقيقتها إلا بعد مرور زمن ومدة، فمثلاً كانوا ربما يشتري أحدهم الدواب من الإبل والبقر والغنم، لكن ما يستطيع أن يكشف حقيقتها إلا بعد يوم أو يومين أو ثلاثة، فقد يشتريها على أنها حلوب، ثم يتبين أنها ليست حلوباً، ولا يمكن أن يتبين ذلك عند شرائها، فربما تكون محقنة مصراة كما تقدم معنا في البيع، فإذا بقيت ثلاثة أيام انكشف أمرها هل هي حلوب أم ليست بحلوب، كذلك يشتري الفرس على أنه جيد وأنه سباق، فإذا أخذه وركبه المرة الأولى والمرة الثانية ما يمكن أن يتبين صفاته إلا بعد مدة.
وهكذا في الرقيق ربما كان به مرض، ربما كان مجنوناً جنوناً متقطعاً، فيباع حال الإفاقة، لكن بعد شهور يتبين أن به هذا الضرر، فهذا شيء يسمونه العهدة، وقد ورد فيه قضاء عن بعض الصحابة كـ عمر بن الخطاب رضي الله عنه وغيره من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنهم قضوا بالعهدة في الأرقاء، وورد عن أئمة السلف رحمهم الله كالإمام مالك والإمام الشافعي عنهما قضاء بالعهدة والضمان بالدواب ونحوها.
وفي زماننا لا يزال يوجد عندنا ما يسمى بالضمان، كالضمان الذي يكون في السيارات تضمن الشركة السيارة بمسافة محدودة، أو بمدة محدودة يمكن للمشتري أن يختبر هذا الشيء الذي اشتراه، وفي الأجهزة الكهربائية ونحوها، الضمان هو الذي يسميه العلماء العهدة، فكان موجوداً.
يعني: إذا كان العالم لا يعرفه إلا في عصرنا الحديث بسبب التقدم، فقد عرفه السلف رحمهم الله والأئمة، وهذا من سمو الشريعة الإسلامية التي عرفت حقوق الناس من قديم الزمن، ما وجدت هذه الحقوق واعترف بها بعد أن تفتح الناس وعرفوا كيف يعيشون في هذه الحياة، لكن الشريعة لما كانت تنزيلاً من حكيم حميد كان ضمان الحقوق معروفاً وكان ضمان حق المشتري معروفاً حتى عند أئمة السلف رحمة الله عليهم، ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تصروا الإبل ولا الغنم، فمن ابتاعها فهو بخير النظرين: إن شاء أمسكها، وإن سخطها ردها وصاعاً من تمر) وفي رواية: (حبسها ثلاثاً) أي: حبسها ثلاثة أيام ليكتشف هل هي حلوب أم ليست بحلوب؟ فهذا لا يمكن أن يكون إلا بالضمان، لكنه ضمان من الشريعة، فالشريعة عندها عهدة، فيكون ضمان البائع للسلعة على صورتين: إما أن يضمن ضماناً ملزماً لا خيار له فيه، ولا يتحقق بمدة، ولا قدر له من حيث الزمان، وهذا النوع من العهدة والضمان هو ضمان العيوب، فأي عيب في السلعة ولو اكتشف بعد سنوات يوجب الرد، ولو كتب البائع على مائة فاتورة، ولو ملأ جميع وثائق البيع أنه بريء من العيب لا يغنيه ذلك شيئاً، لو قال: البضاعة لا ترد ولا تستبدل واشترط هذه الشروط (كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط) لأن الشريعة لا تجيز شروطاً تسقط حقوق الناس، ولا تجيز شروطاً تعين على ظلم الناس، وأكل أموالهم بالباطل، هذا أمر مفروغ منه.
فإذا ثبت هذا يأتي النوع الثاني من العهدة التي تكتشف فيها حقيقة السلعة، لو أن الشريك باع نصيبه من العمارة، أو باع نصيبه من المزرعة، أو باع نصيبه من الأرض ثم تبين وجود عيب في هذا النصيب، من الذي اكتشف العيب، اكتشفه إما الشفيع بعد أخذه بالشفعة، أو المشتري بعد شرائه من الشريك، في هذه الحالة إذا وجد العيب في المحل الذي وقعت عليه الشفعة يكون وجه الشفيع على المشتري، ووجه المشتري على الشريك الأصلي الذي باع، هذا هو المراد بقوله رحمه الله: وعهدة الشفيع على المشتري، يعني: يطالب المشتري بضمان حقه، فيما الشفيع وجد من العيوب في المبيع من العقارات، وكذلك أيضاً يطالب المشتري البائع بضمان حقه فيأخذ حقه من المشتري، والمشتري يأخذ حقه من البائع في ضمان العيوب الموجودة في النصيب المباع.