قال رحمه الله: [ولا لكافر على مسلم] أجمع العلماء على ثبوت الشفعة للمسلم على المسلم، وللذمي على الذمي، والخلاف لو وقعت الشفعة من ذمي على مسلم، فهناك ثلاث صور مجمع عليها: شفعة المسلم على المسلم، والذمي على الذمي، والمسلم على الذمي، لكن المسألة الخلافية هي الرابعة وهي: شفعة الذمي على المسلم.
وهذه المسألة تقع إذا كان أهل الذمة في أرض واشترك مسلم وذمي في أرض، فلو اشترك مسلم وذمي في أرض، فإن باع الذمي سواءً باع على ذمي مثله أو باع على مسلم فمن حق المسلم أن يشفع، وهذا ليس فيه إشكال، لكن إن باع المسلم ننظر في بيعه إما أن يقع على ذمي فتصبح شفعة ذمي على ذمي وهي جائزة لعموم الأدلة، وإما أن تقع البيعة من مسلم على مسلم فحينئذٍ يرد
Q هل للذمي شريك المسلم أن يشفع فيأخذ هذا النصيب من المسلم الداخل عليه؟ هذا في حال ما إذا باع مسلم على مسلم وكان شريكاً لذمي.
أو كان هناك ذميان، فباع أحدهما نصيبه إلى مسلم، فحينئذٍ سيشفع الذمي الثاني على مسلم، هل من حقه أن يشفع على المسلم؟ اختلف العلماء رحمهم الله في هذه المسألة، ووقع فيها قضاء لأئمة السلف كـ عمر بن عبد العزيز وإبراهيم النخعي رحمة الله على الجميع، وحاصل ما ذكروه في هذه المسألة أن فيها قولين: القول الأول: لا شفعة للذمي على المسلم، وهذا مذهب الحنابلة رحمهم الله، ولا يستحق الذمي أن يأخذ النصيب من المسلم إذا بيع له سواءً كان البيع من مسلم أو ذمي، وهذا القول هو الذي اختاره المصنف رحمه الله: أنه لا شفعة لكافر على مسلم.
القول الثاني: أن الذمي يستحق الشفعة على المسلم وهو مذهب جمهور العلماء رحمهم الله، ولذلك تعتبر هذه المسألة من مفردات المذهب الحنبلي، والمفردات عند العلماء هي: المسائل الفقهية التي انفرد فيها مذهب عن بقية المذاهب الأخرى، فهناك مفردات في المذهب الحنفي، ومفردات للمذهب المالكي والشافعي والحنبلي، ومن أنفس الكتب التي ألفت في المفردات ما ألفه الحافظ ابن كثير في كتابه المشهور: المسائل التي انفرد فيها الإمام الشافعي عن إخوانه من الأئمة، وذكر فيها مفردات المذهب الشافعي، كذلك مفردات المذهب الحنبلي جاء فيها نظم وشُرح هذا النظم في الكتاب المشهور منح الشفاء الشافيات في شرح المفردات للإمام شيخ الحنابلة الجهبذ العلامة البهوتي رحمه الله برحمته الواسعة، وهو من أنفس الكتب التي يذكر فيها مفردات مذهب أحمد.
انفرد الحنابلة فقالوا: الذمي لا يشفع على مسلم، وهذا القول له أدلة، وتكلم على هذه المسألة الإمام ابن القيم رحمه الله كلاماً نفيساً، وذكر الحجج والأدلة في كتابه النفيس: أحكام أهل الذمة، وذكر فيه أكثر من عشرة أوجه لترجيح القول القائل: بأنه لا شفعة للذمي على المسلم؛ لأن الإسلام يعلو ولا يُعلى عليه، وفي أخذ النصيب من المسلم قهر له وعلو عليه.
ثانياً: أن الإسلام هو دين الله عز وجل، والمقصود إعلاء كلمته، ونشره في الأرض، حتى لا يكون للكافر سلطان على المسلم حتى في الأموال.
فقالوا: في هذه الحالة إذا اشترى المسلم هذا النصيب وجاء الكافر واستكثر وتقوى على المسلم فيكون قد استظهر في أمر زائد عن حقه، ومما يؤكد هذا -حسبما قالوا- أن الله عز وجل شرع لنا على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم إذا لقينا الكفار أن نضطرهم إلى أضيق الطريق، وأن لا نبدأهم بالسلام، مع أنهم معنا في مكان واحد، لكن لابد أن يشعروا في بلاد المسلمين بالذلة والحقارة؛ لأنهم إذا لم يشعروا بذلك استعلوا على المسلمين، وهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان من السنن العمرية التي وضعها وجرى العمل عليها عند العلماء، وكاد يكون إجماعاً، على أن الكافر إذا كان بين المسلمين لا يبني بناءً يعلو به فوق المسلمين، فيكشف به عوراتهم، أو يكون له تميز أو علو عن المسلمين؛ لأن المقصود أن تكون كلمة الله هي الغالبة، وكما يكون الشعار للإسلام معنىً يكون له حساً.
فإذا جاء الكافر يستظهر على المسلم بشراء النصيب، ويستظهر باتساع رقعته وملكيته بين المسلمين هذا لا شك أنه سيضر بمصالح المسلمين، وسيجعل له سلطاناً على المسلمين، والله عز وجل يقول: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء:141] ونحن بالشفعة نجعل للكافر على المسلم سبيلاً.
فتكلم ابن القيم في هذا كلاماً نفسياً بأدلته النقلية والعقلية من أكثر من عشرة وجوه، وبين أن مقاصد الشريعة -بل حتى إن المقصود من الشفعة- قد لا تتحقق إذا مكنا الكافر من أن يشفع على مسلم؛ لأنها شرعت لدفع الضرر، وهل هناك أضر من كافر لا يدين دين الحق يستعلي على المسلم بماله؟! ولذلك لاشك أن من تأمل أصول الشريعة يقوي هذا الوجه، ويرى أن القول بثبوت الشفعة للكافر لا يخلو من نظر إذا كان على مسلم؛ لأن العمومات تخصص، وهناك قواعد وأصول للشريعة تخصص ما هو أقل درجة منها، فأنت إذا نظرت إلى نصوص الكتاب والسنة وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم الفعلي والقولي من كف شعار الكفار، وعدم إعطائهم القوة لاستظهارهم على المسلمين ترى أن القول بعدم ثبوت الشفعة لهم أقوى وأظهر، وأنهم يصوغون القول بتخصيص عموم الأدلة الواردة؛ ولأن الأدلة في الأصل إنما وردت للمسلمين والكفار تبع، والتابع لا يقوى اندراجه تحت الأصل من كل وجه إذا عارض ما هو أقوى وأرجح أصولاً ومعنىً، ولذلك نقول: إن القول بإسقاط الشفعة للذمي على المسلم أقوى وأظهر، والله تعالى أعلم.