الأمر الثالث: ربما أن الإنسان تصعب عليه المسائل ويريد ضبطها فتكثر عليه، فيجد نوعاً من السآمة والملل لكثرة المسائل، فلا ينبغي للإنسان أن يسأم، ولا ينبغي لطالب العلم الحق أن يمل: (منهومان لا يشبعان: طالب علم، وطالب دنيا) وشتان ما بينهما! أحدهما: يخوض في غمار رحمة الله عز وجل، والآخر يخوض في الملهيات والمهلكات حتى تهلكه والعياذ بالله، فلا يبالي الله به في أي أودية الدنيا هلك، فكما ترى -ولله المثل الأعلى- التاجر وهو في تجارته يسهر ليله، ويتعب جسمه، ويذل نفسه في بعض الأحيان، فلا يستكثر أن يقف موقفاً يتوسل ويرجو فيه الخادم والعامل عنده من أجل أن يربح الألف والألفين، ولربما قال العامل: إني أريد أن أخرج، فيقول: أرجوك أن تبقى معي نصف ساعة أو ساعة، يذل نفسه من أجل الدنيا، وأنت والله أشرف وأعظم وأكمل عند الله سبحانه وتعالى متى ما صبرت ولم تمل، فإن الله يمتحن كل من جلس في مجالس العلم بالشواغل ويمتحنه بالثناء والمدح والسمعة والرياء والسآمة والملل، فلا يمل الإنسان، ومن يمل كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم؟! إنا أمة أعزنا الله بالإسلام فمهما ابتغينا العزة بما سواه أذلنا الله، فلا عز لنا إلا بهذا العلم.
والله إن هذه الكلمات والمسائل ربما تراها أنها يسيرة، ولكن ضبطها وإتقانها رفعة للعبد في الدنيا والآخرة، ويخلف الله لك بهذا العلم الهيبة والمحبة والإكرام والإجلال في صدور الناس متى ما اتقيت الله عز وجل، ولتعلم أن كل مسألة تتعلمها وتضبطها وتعطيها حقها من الإتقان لوجه الله وفي الله وابتغاء ما عند الله ما هي إلا درجات لك عند الله سبحانه وتعالى، فلتستقل أو تستكثر.
فينبغي علينا دائماً التواصي بحقوق هذا العلم، خاصة إذا أصبحت المجالس بالساعة والساعتين والثلاث، وكان العلماء رحمهم الله يجلسون من بعد صلاة الفجر إلى صلاة الظهر وهم في مذاكرة العلم ومدارسته ومناقشة المسائل.
وإذا كنا نأخذ الفصل في مجلس أو مجلسين، فهم يأخذون السطر والسطرين ما بين صلاة الفجر إلى صلاة الظهر، وهذا ليس لأنهم في ضبطهم وإتقانهم فيهم ضعف لا والله، هم القوم أهل العلم والمعرفة والإتقان، وزمانهم قليل الفتن والمحن، لكنهم يريدون ضبط كل مسألة، فتُقرأ الكلمة، وتشرح لغة واصطلاحاً، ويبين حكمها ودليلها، ثم يُبين الخلاف فيها، ثم القول الراجح من بعد هذا كله، وكل ذلك يعرض على طلاب العلم، وكان الشيخ يجلس إلى العشرة إلى الخمسة عشر، وبعد أن يحفظ طلاب العلم المسألة يسأل هذا ثم هذا حتى يتم المسألة عليهم كلهم، فيمضي الوقت كله في مذاكرة هذين السطرين، وهذا كله من باب الإتقان والحرص، فهم يتدارسون السطرين في ثلاثة أو أربع أو خمس ساعات كلما جاءت ساعة يزداد شوقهم للعلم أكثر، وتزداد محبتهم وإجلالهم للعلم أكثر، لكن إذا كثرت الغفلة وتأخر الزمان صار العلم أصعب، وصار الصبر في مجلس العلم أصعب، فلذلك يحتاج طالب العلم دائماً أن يوصى بأن يصبر، وإذا زادت الشواغل للإنسان وصعب عليه التفرغ للعلم، وصعب عليه ضبط العلم فإن درجته عند الله أكبر، وثوابه عند الله أكثر، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في حال هذا الزمان وأمثاله: (للعامل فيهن -أي: في مثل هذه الأيام الكثيرة الفتن والمحن والشواغل- مثل أجر خمسين، قالوا: يا رسول الله! منا أو منهم؟ قال: بل منكم، إنكم تجدون على الحق أعواناً، وهم لا يجدون على الحق أعواناً).
كان السلف يجدون العون من النفس الصالحة المؤمنة اللوامة التي تلوم الإنسان على كل ثانية وعلى كل لحظة، وكانوا يجدون على الحق أعواناً من قرنائهم، وكانوا يجدون على الحق أعواناً حتى من أبنائهم وذرياتهم وأزواجهم، ولكن اليوم لو أراد الإنسان أن يتفرغ لأيام يطلب فيها العلم شغل بأهله وشغل بولده، وشغل بمشاغل تحيط به من كل حدب وصوب.