قال رحمه الله: [ويحرم التحيل لإسقاطها] يحرم على المسلم أن يحتال لإسقاط الشفعة؛ لأن الحيلة تغيير لشرع الله وإبطال للحق وإحقاق للباطل، والحيلة لا خير فيها، ومن حيث الأصل الحيل تنقسم إلى قسمين: هناك حيلةٌ مشروعة، وهناك حيلة ممنوعة، فالحيل المشروعة هي التي أذن الله بها ورسوله عليه الصلاة والسلام، ويكون فيها بعض الكيد الواقع في موقعه، ومن ذلك ما احتال به يوسف عليه السلام على إخوته من أجل أخيه بنيامين، فإنه لما جاءوا أمرهم أن يأتوا بأخيهم، فالسبب في كونه يأمرهم بالإتيان لأنه كان يعلم أن الأسباط فيهم حسد وأذية له ولأخيه، فأمرهم أن يأتوا بأخيه، فلما جاءوا به وأخبره أنه أخوه واحتال لاستبقائه تحت يده؛ لأن أيديهم فيها خيانة، بدليل أنه رأى ذلك وعلمه منهم حينما رموه في الجب، فاحتال لكي يستحق أخاه بالحيلة، فخبأ الصاع في رحله، ثم ادعى أنهم سرقوه، وهذا يقول فيه بعض العلماء رحمهم الله: إنهم في الصغر آذوه، فكانت أذيةً في مقابل أذية.
ويقولون: إنه فعل ذلك لدفع ما هو أعظم وأشد، فإنه لم يأمن أن يقتلوا أخاه؛ وعلى هذا فإن ادعاء كونهم سارقين مفسدة، ولكنها أخف بكثير من كونهم معتدين على أخيه إما بقتله أو بالإضرار به، وعلى هذا قالوا: احتال يوسف عليه السلام كما قال تعالى: {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ} [يوسف:76] والكيد كما هو ثابت في كتاب الله عز وجل صفة من صفاته، من غير تأويل ولا تعطيل، ولا مشبهاً كيده سبحانه بكيد خلقه، وهذا هو مذهب أهل السنة والجماعة، أن الصفات تبقى على ظاهرها، فإذا جئنا نخرجها أثبتناها بأنه كيد واقع في موقعه، والكيد كيدان: كيد واقع في موقعه فهو مشروع غير ممنوع، وكيد غير واقع في موقعه فهو ممنوع وصفة نقص.
فلما كان كيده سبحانه وتعالى كيداً كاملاً لا نقص فيه كانت صفة كمال لله عز وجل، ولما كان كيد المخلوق الغالب فيه أن يقع في غير موقعه صار صفة نقص وذم، وما للخالق لا يشابه ما للمخلوق، ولذلك نقوم بإثبات هذه الصفات، والشاهد عندنا أن الحيلة تكون مشروعة لدفع ما هو أعظم أو طلب ما هو أجل أو مصلحة أكبر.
ومن أمثلة الحيلة الشرعية ما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما أُتي بصاعٍ من التمر -من صاع خيبر وكان من أجود التمر وأحسنه- ونظر إليه فأعجبه فقال كما في الحديث الصحيح: (أكل تمر خيبر هكذا؟ قالوا: لا يا رسول الله! إنا والله نبيع الصاع من هذا بالصاعين -يعني: هذا الجيد الذي تراه ندفع في مقابله صاعين مما هو أردأ منه- فقال عليه الصلاة والسلام: أوه -وهي كلمة توجع وتفجع- عين الربا! عين الربا رده -فأمر برده وإبطال البيع- ثم قال: بع الجمع بالدراهم ثم اشتر به) فدل هذا على حيلة شرعية، وهي أن تبيع القديم بالنقد ثم تشتري به الجديد.
ومن أمثلته الذهب: فلو كان عند المرأة ذهب قديم وأرادت أن تستبدله بذهب جديد فلا يجوز إلا مثلاً بمثل يداً بيد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الذهب بالذهب إلى أن قال في آخر الحديث: مثلاً بمثل يداً بيد) وقال في حديث أبي سعيد في الصحيحين: (لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلاً بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض) فإذا ثبت أنه لابد من التماثل فقد لا يبيع صاحب المحل الجديد بالقديم بنفس الوزن بل يقول: أريد الفارق فتقول له المرأة: اشتر مني هذا القديم، فتبيعه ثم تخرج من المحل حتى تتم الصفقة الأولى والبيع الأول؛ لأن (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا) فإذا خرجت من المحل رجعت مرة ثانية بعد تمام الصفقة الأولى ووجوبها وثبوتها واشترت الجديد (بع الجنيب بالدراهم ثم اشتر به جديداً).
فجعل النبي صلى الله عليه وسلم لنا مخرجاً شرعياً جائزاً، أما إذا كانت الحيلة لإبطال حقٍ أو إحقاق باطل فإنها تعتبر محرمة، وهو صنيع بني إسرائيل الذين استحلوا ما حرم الله عليهم، ولذلك لما حرم الله عليهم الصيد في السبت وضعوا الشباك في يوم الجمعة ثم أخذوها يوم الأحد فاستحلوا ما حرم الله: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء:142] ولذلك قالوا: من يحتال على الشرع فهو مخادع، ومن يخادع الله يخدعه الله عز وجل، ومن كان تحت سطوة الله فلا تسأل عن حاله، فإن الله يخدعه في نفسه وأهله وعرضه وولده وماله، فإذا ظن أنه بهذه الحيل يستكثر ماله دمر الله تجارته ونزع البركة من ماله، فهو يظن أنه يصل إلى شيء فيحرمه الله عز وجل ذلك الشيء ويجعل احتياله عليه سبباً في حصول البلاء والوبال عليه في الدين والدنيا والآخرة.
ولذلك ابن عباس رضي الله عنهما جاءه رجل، وكان عم هذا الرجل قد طلق امرأته ثلاثاً، وأراد هذا الرجل أن يتزوج المرأة كي يحللها لعمه، وهي مسألة خلافية، لكن الشاهد أن ابن عباس رضي الله عنهما لما سئل عن ذلك قال: (إن الله لا يُخدع) وقال ابن عمر رضي الله عنهما: (من يخادع الله يخدعه) ومصداق ذلك في كتابه تعالى: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء:142] ولذلك لا يجوز للمسلم أن يتعاطى مثل هذه الحيل، ومن ذلك تحليل المرأة المطلقة ثلاثاً، حيث يؤتى برجل ويقال له: تزوج هذه المرأة ونعطيك المهر، فإذا عقدت عليها ودخلت بها طلقها حتى تحل لفلان (فلعن الله المحلل والمحلل له) وهو التيس المستعار وقد تقدم الكلام عليه في باب النكاح، فهذا من الحيل المحرمة، ومن الحيل المحرمة ما كان عليه بنو إسرائيل مما أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم حينما حرمت عليهم الشحوم فجملوها وأذابوها وقالوا: حرم الله علينا الشحوم ولم يحرمها علينا على هذا الوجه.
فالواجب على المسلم أن يقف عند حدود الله عز وجل، وأن لا يحتال على الشرع، وقد تقع الحيل في العبادات وتقع الحيل في المعاملات ومن أسوأ ما ذكروه أنهم كانوا يقولون للتاجر: خذ زكاة مالك من الذهب أو الفضة وضعها في كيس حب، ثم أعطها للمسكين على أنك تنوي بها الزكاة، فإذا أخذها المسكين -وهو لا يدري أن بداخلها الذهب- قل له: إن هذا الكيس إن وهبتنيه أعطيتك أفضل أو أحسن منه، فالمسكين لا يدري أن بداخله الزكاة التي هي من الذهب أو الفضة، فيهبه له أو يرسل إليه التاجر من يأخذ منه الكيس، فكل هذا من التحايل والتلاعب في دين الله عز وجل وقس على ذلك من الحيل؛ لكن إذا كان للحيلة أصل شرعي ودليل يدل على جوازها فإنها مشروعة غير ممنوعة.
فقوله: [ويحرم التحيل لإسقاطها]، اللام للتعليل أي: من أجل إسقاط الشفعة، ومن أمثلة ذلك: لو أن شخصاً أراد أن يبيع العقار لشخص فيدعي ويقول له: سأهب لك هذا النصف ثم تعطيني على هذه الهبة مكافأة، ومعلوم أن هذا النصف قيمته مائة ألف، فيعطيه مكافأة على ذلك مائة ألف، في الحقيقة الأمر قائم على معاوضة، وإنما احتال بالهبة من أجل أن لا يعترض الشريك فيشتريه، وبناء على ذلك تكون الهبة في الظاهر والبيع في الباطن، فهذا يعتبر من التحيل لإسقاط الشفعة؛ لأنه لا شفعة في هبة، ويقاس على ذلك الصور التي يقصد بها المتعاقدان إسقاط الشفعة عن الأجنبي.
فلا يجوز للمسلم أن يتحيل لإسقاط الشفعة، وقد بينا نصوص الكتاب والسنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتي تدل على تحريم التحيل على الشرع، وأن الواجب على المسلم أن يلتزم ما أمره الله بالتزامه، والتحيل على الشريعة فيه إثمان: الإثم الأول: تغيير شرع الله عز وجل بإحقاق الباطل وإبطال الحق.
والإثم الثاني: عصيان ما أمر الله عز وجل به وما نهى عنه، فما أمر به يصير بالحيلة منهياً عنه، وما نهى عنه يصير بالحيلة مأموراً به أو -على الأقل- مباحاً، والله حرمه ومنع العباد منه، ولذلك أمر الله عز وجل عباده بالتسليم، وأخبر سبحانه وتعالى وأقسم بنفسه أنه لا يؤمن مؤمن إلا إذا سلم بحكمه والتزم بشريعته: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65] فلابد من التسليم والإذعان لله عز وجل طواعية له سبحانه وتعالى، وتذللاً وتقرباً، مع العلم أنه لا أحكم من حكمه، ولا أتم من شرعه سبحانه وتعالى، فمن ذلك الشفعة.
لقد جُبلت النفوس على حب المال، وإذا اشترى إنسان شيئاً وثبت لأخيه المسلم حق الشفعة ربما حرك الشيطان في نفسه كوامن الشح والبخل، فيضن عن إعطاء أخيه المسلم حقه الذي أعطاه الله عز وجل إياه، فيسعى بالحيلة لإسقاط الشفعة، ويتحيل على هذا الحق لأخيه المسلم حتى لا يمكنه منه، فيأتي بأمر أو يتصرف تصرفاً إما فيما بينه وبين البائع أو بإخباره للشريك أنه موهوب له أو نحو ذلك من أساليب الحيلة، فهذا كله حرام ولا يجوز للمسلم أن يفعله، وعلى من فعله التوبة من ذلك بالاستغفار والندم، وإخبار صاحب الحق وهو الشريك أن الشقص والنصيب انتقل إليه بالبيع، وإخباره كذلك بقيمة البيع، حتى يتمكن من حقه فإن شاء شفع وإن شاء ترك.