بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فقد تقدم بيان المسائل المتعلقة بجناية البهيمة، وقد ذكرنا أن البهيمة إما أن يكون معها صاحبها، وإما أن تكون مرسلة، فإن كان معها صاحبها فلا يخلو إتلافها للشيء من أمور: إما أن يكون بمقدمة البهيمة كأن تتلف شيئاً بيديها، أو يكون الإتلاف برجليها والمؤخرة، أو يكون الإتلاف بوسطها، فإن كان الإتلاف بمقدمة البهيمة فإن الضمان يكون على القائد والسائق للبهيمة سواءً كان صاحبها أو كان غيره، فإنه يجب عليه ضمان ما أتلف؛ والسبب في ذلك: أن قائدها وسائقها يتحكم فيها إذا كان راكباً عليها، ويكون إقدامها على إتلاف الأشياء بسبب تعاطي القيادة والإرسال.
وأما بالنسبة لإتلافها للشيء بظهرها، فإن ذلك لا يخلو من حالتين: إما أن يكون الشخص الذي معها هو الذي ردها إلى الخلف فحينئذٍ يكون الضمان على الشخص؛ لأن الإتلاف وقع بسبب الرد إلى الخلف وهو ناشئ من سببيةٍ تعاطاها القائد فيجب عليه الضمان، وإما أن يكون إتلافها بخلفها ناشئاً منها هي بدون أن يتحكم فيها القائد، فحينئذٍ لا إشكال أنه لا ضمان على قائدها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أسقط الضمان في إتلاف البهيمة، وأما إذا لم يكن معها أحد فإن كان صاحبها قد تعاطى أسباب التفريط والإهمال، كأن يرسلها بجوار شيءٍ يتلف عادةً أو تُقدم البهيمة على إتلافه أو حصول الضرر فيه، مثل: الأطفال وصغار السن إذا أرسل البهيمة بينهم، وليس المراد بالإرسال التحريش، كأن يغريها أن تذهب كما يظن البعض، لا.
لأنه إذا حرشها أن تذهب فلا إشكال أنه يضمن، لكن المراد بالإرسال أن يطلق عنانها، بمعنى: أن يتركها دون أن يقيدها ودون أن يربطها فتذهب البهيمة بنفسها وتتلف، صحيحٌ أن الإتلاف وقع من البهيمة؛ ولكن كونه يرسلها بجوار شيءٍ غالباً ما تتلفه، كأن يأتي إلى موضع فيه زجاج أو موضع فيه شيءٌ خطير أو شيء فيه ضرر، والبهيمة عادةً يربطها صاحبها حتى تستقر في مكانها، فجاء وتركها دون أن يربطها فهذا معنى إرسالها، فإذا أرسلها بجوار ما تتلفه عادةً، أي: بجوار شيءٍ لو أرسلت بدون قيدٍ لأتلفته فإنه يجب عليه الضمان.
إذاً: البهيمة من حيث الأصل عندنا فيها حديث: (العجماء جبار)، بمعنى: أن كل ما تتلفه هدر، واستثنينا عدة صور، وهي: إذا كان معها صاحبها؛ لأن الإتلاف لم ينشأ من البهيمة أصلاً وإنما نشأ ممن معها، فلا يمكن لأحد أن يعترض بالحديث: (العجماء جبار) على حالة ما إذا كان معها صاحبها؛ لأنه إذا كان معها صاحبها ففي الواقع أنه إنما حصل الإتلاف بسبب الإهمال والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (العجماء جبار)، فإذا تمحضت في الإتلاف، بمعنى: أن ينشأ الإتلاف دون وجود إهمال من صاحبها، فحينئذٍ يمكنك أن تنسب الإتلاف إلى البهيمة؛ لكن إذا كان معها صاحبها أو تعاطى صاحبها أسباب الإهمال، فإنه يجب عليه الضمان، وهذا حاصل ما ذكرناه في جناية البهيمة.
وأحببنا أن ننبه على هذا الملخص؛ لأن بعض طلاب العلم تلتبس عليه المسائل ويتداخل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (العجماء جبار) مع حديث تضمين البهيمة إذا أتلفت بالليل؛ لأن حديث تضمين البهيمة إذا أتلفت زرع الناس بالليل يدل على ذلك؛ لأن الأصل أن البهيمة تحفظ في الليل، فلما أهمل صاحبها في حفظها وجب عليه الضمان، فذهبت السنة على أنه يضمن رب البهيمة إذا أهمل فيها أو تعاطى أسباب الإتلاف الذي حصل منها، وهذا هو العدل الذي قامت عليه السموات والأرض وعليه شرعُ الله عز وجل.
وليس من العدل أن نقول للناس: كل ما أتلفته بهائمكم هدر.
ثم يأتي الرجل ببهيمته فيتركها بجوار الأشياء الخطيرة أو بجوار أمتعة الناس ويقول: العجماء جبار، أو يأتي ببهيمته ويدخل بها في سوق فيه أطعمة وفيه مصالح الناس -والبهيمة إذا أرسلت رتعت في هذه المصالح- فيقول: العجماء جبار؛ لكن الله عز وجل نبهنا على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم وبهديه الكريم على أن البهيمة إذا أتلفت شيئاً وكان الإتلاف متمحضاً منها فلا ضمان؛ لأنها بهيمة، فإذا أتلفت من فعلها دون أن يفرط صاحبها فمثلها لا يحاكم ولا يترتب عليه المؤاخذة من حيث الأصل، ثم إذا حصل الإهمال من ربها وصاحبها وجب الضمان حينئذٍ.