فإذا وقع الإفساد في النهار فإن صاحب البهيمة لا يتحمل المسئولية، وإن وقع الإفساد بالليل فإن صاحب البهائم يتحمل المسئولية عما أفسدت بهائمه من الزرع.
والأصل في هذا التفريق: كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فإن الله عز وجل ذكر عن نبيه داود وسليمان عليهما السلام أنهما حكما في قضية نفش الغنم في الليل، فأوجب كل من داود وسليمان الضمان، لكن داود عليه السلام أوجب ملكية صاحب الزرع للغنم، وسليمان أبقى الملكية كما هي وأوجب ضمان الزرع الذي فسد، فكل من داود وسليمان متفق مع الآخر على وجوب الضمان لكن اختلفوا في كيفية التضمين، تفصيل الحادثة: رجل كان له غنم، فخرجت بالليل وأكلت زرع رجل آخر، فلما فسدت اختصموا إلى داود عليه السلام، فنظر داود عليه السلام فوجد أن قيمة الزرع الذي تلف تعادل قيمة الغنم؛ فقضى عليه السلام بأن صاحب الزرع يملك الغنم، فحكمه صحيح وما ظلم -عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام- بل حكم بالعدل، لكن يقولون: هناك حكم يكون فيه الاجتهاد وهناك ما هو أصوب منه، فداود عليه السلام حكم من حيث الأصل بحكم له وجه من حيث العدل، فصاحب الزرع لما فسد زرعه وقيمته -مثلاً- ألف ريال، والغنم قيمتها ألف ريال؛ فلما حكم بأن الغنم لصاحب الزرع ما ظلم صاحب الغنم ولا ظلم صاحب الزرع، هذا من حيث حكم داود، لكن سليمان قال: لو كنت قاضياً في ذلك لأمرت صاحب الغنم أن يأخذ الزرع وينميه حتى يعود كما كان، ويأخذ صاحب الأرض الغنم ينتفع بحليبها وصوفها حتى ينمي ذلك له زرعه ويرجع كل إلى ماله، فأثنى الله على حكم سليمان؛ لأن حكم سليمان أبقى اليد كما هي؛ فأبقى لصاحب الزرع زرعه وأبقى لصاحب الغنم غنمه، فأثنى الله على هذا الحكم وقال: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً} [الأنبياء:79] فأثنى على الاثنين، حتى كان إبراهيم النخعي رحمه الله يقول: لولا هذه الآية لأشفقت على المجتهدين.
أي: لأشفقت على العلماء والمجتهدين الذين يجتهدون في الأحكام الفقهية؛ لأن الله أثنى على الاثنين وقال: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً} [الأنبياء:79] فدل على أن الاجتهاد فيه سعة، فما دام أن الإنسان يتحرى الحق ويريد الصواب فلا تثريب عليه ولو خالف غيره، ما دام أن عنده دليل وحجة.
فظاهر القرآن أن الغنم إذا نفشت في الليل فإنه يجب ضمانها، ولذلك داود حكم بضمان الزرع وسليمان حكم بضمان الزرع.
فالكل متفق على أن الغنم إذا رعت في الليل فإنه يتحمل صاحبها المسئولية، لكن النهار جاء فيه حديث البراء بن عازب رضي الله عنه وأرضاه حيث كانت له ناقة ضارية واعتدت على مال لأنصاري، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بضمانها، وقضى أن حفظ الحدائق نهاراً على أصحابها، وحفظ الدواب ليلاً على أهلها؛ فدل على أن الدواب في الليل يحفظها أهلها، وأما في النهار فالحدائق والبساتين يحفظها أهلها، وقال الإمام ابن قدامة رحمه الله: هذا صحيح؛ لأن صاحب الزرع في النهار موجود داخل زرعه فلذلك يتحمل مسئولية المحافظة على الزرع، لكنه في الليل يأوي إلى فراشه ويرتاح والغنم في الليل عادة تسكن، فكونها تترك فهذا نوع من الإهمال والتفريط ولذلك لزم الضمان من هذا الوجه، وعلى هذا يفرق في الدواب بين كونها تفسد في الليل أو تفسد في النهار وهذا مذهب الجمهور.
هناك من العلماء من قال: البهيمة لا ضمان فيما أتلفت وخاصة الجرح، واحتجوا بقوله عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين: (العجماء جبار) وقوله: (جبار) بمعنى: هدر، وإذا كانت العجماء هدر، فمعنى ذلك أن ما تتسببه من الأضرار فإنه هدر لا يجب ضمانه، والواقع أن هذا الحديث لا يعارض ما ذكرناه؛ لأن القاعدة تقول: (لا تعارض بين عام وخاص)، فالبهائم تسمى عجماء؛ لأنك لا تفهم كلامها، ويقال لها: بهيمة؛ لأنها أبهمت، والإبهام من الشيء المبهم المجهول، فلا تستطيع أن تفهم لغتها ولا كلامها، فالمراد بقوله: (جبار) ما يكون منها من إتلاف هدر، وظاهر الحديث أن كل ما يكون من جناية البهائم هدر، لكن لما جاء حديث البراء وأيده ظاهر الكتاب خصصنا عموم الحديث في السنة بكتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، والقاعدة كما هو معلوم تقول: (لا تعارض بين عام وخاص) فنقول: إن العجماء هي جبار ما لم يكن الإفساد في الزروع، فإنها مستثناة من النص إذا وقع الإفساد بالليل دون النهار.