الغصب من كبائر الذنوب

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.

أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [باب الغصب].

الغصب: هو أخذ الشيء بالقهر والقوة.

وليس هناك اختلاف كبير بين حقيقة الغصب في اللغة، وحقيقته في الاصطلاح، وقد عرفه المصنف رحمه الله بقوله: [هو الاستيلاء على حق الغير قهراً بغير حق].

وهذا النوع من المعاملات يقع بين الناس في سائر الأزمنة والأمكنة، فابتلى الله عز وجل الناس بعضهم ببعض، وجعل هذا البلاء فتنة: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ} [الفرقان:20].

فالله من حكمته أن ابتلى العباد بعضهم ببعض، ابتلى الضعيف بالقوي وابتلى القوي بالضعيف، اختباراً لعباده وابتلاء لهم فيما يعملون.

فمن حكمة الله سبحانه وتعالى أنه ابتلاهم بهذا لكي يعظم الأجر للمبتلى فيما غصب منه، وكذلك يؤاخذ الغاصب بجنايته وظلمه لأخيه وأخذه لماله بدون حق.

وباب الغصب باب مهم جداً، والعلماء رحمهم الله اعتنوا ببيان أحكامه في كتب الحديث وكتب الفقه، ولذلك أفردوه بباب مستقل تعظيماً لشأنه، وبياناً لمسائله وأحكامه.

يقول رحمه الله: (باب الغصب) أي: في هذا الموضع سأبين لك جملة من المسائل والأحكام المتعلقة بالاعتداء على أموال الناس، وأخذها بالقهر والقوة دون وجود مبررٍ شرعي لذلك الأخذ، وقد حرّم الله عز وجل ورسوله عليه الصلاة والسلام الغصب، وانعقد إجماع الأمة على تحريم هذا الفعل، وأنه كبيرة من كبائر الذنوب التي توجب سخط الله وغضبه على العبد والعياذ بالله، وتوجب عقوبة الدنيا والآخرة، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء:29].

ووجه الدلالة من هذه الآية الكريمة: أن الله حرّم على المسلم أن يأكل مال أخيه المسلم بالباطل، والغصب أكل الأموال بالباطل؛ لأن الباطل هو الذي لا وجه للحق فيه، وكل من اعتدى على أرض أخيه أو ماله أياً كان ذلك المال بدون وجه حق فقد غصبه، وإذا أخذه على سبيل القهر والغلبة -كما سيأتي- فيدخل في عموم الآية أنه أكل المال بالباطل.

وأما السنة: فإن النبي صلى الله عليه وسلم عظم أمر الغصب، ومن أصدق الشواهد على ذلك أنه ثبت عنه حديثان يدلان على عظم الاعتداء على أموال الناس سواء ذلك بالغصب أو غيره، أحدهما: عام، والثاني: خاص.

أما الحديث العام: فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما وقف في حجة الوداع، وكانت خطبته عليه الصلاة والسلام لأمته في ذلك الموقف وذلك اليوم، قال في أول الخطبة: (أيها الناس! اسمعوا قولي فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا أبداً) فتصوروا هذه الكلمة والجملة! إذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يودع الناس ويريد أن يقول كلاماً ينبههم على أنه قد يكون آخر الكلام، وأنه وصية عظيمة، فمعناه: أنه قد بلغ من الأهمية الغاية، فكان أول ما استفتح خطبته عليه الصلاة والسلام -بعد أن قال هذه الكلمات العظيمة التي خشعت لها قلوب الصحابة وأحس الصحابة أنه يودعهم، وأنه آخر العهد به عليه الصلاة والسلام في ذلك الموقف الذي ما وقف بعده عليه الصلاة والسلام، وما عاش بعده إلا قليلاً، قال عليه الصلاة والسلام: (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا) فعظم تحريم الدم والمال والعرض، فما أعظم حق المسلم عند الله عز وجل! حيث حرم ماله ودمه وعرضه.

فكل انتهاك لهذه المحارم الثلاث فإنه عصيان لله ولرسوله، ونسيان لهذه الوصية، فإذا سفك دم أخيه المسلم أو انتهك عرضه ولو بلمزة ولو بغيبة: فلان فيه! فقد ضيع وصية النبي صلى الله عليه وسلم التي لما قالها عليه الصلاة والسلام في ذلك الموقف أشهد الله جل جلاله أنه بلغ رسالته وأدى أمانته.

فقوله: (إن دماءكم) أتى بأسلوب التوكيد (إنَّ) ثم قال: (دماءكم) فجعل الدماء دماً واحداً، وقوله: (أموالكم) إذا اعتدي على مال أخيك المسلم فكأنه يعتدى على مالك، والذي يغصب من أخيك سيغصب منك، (وأعراضكم) وجعل الأعراض والأموال بمنزلة الدماء.

فكما أنه لا يجوز لك أن تسفك دم أخيك المسلم، فإنه لا يجوز أن تغتابه ولا يجوز أن تحتقره، ولا يجوز أن تمس هذا العرض لأخيك المسلم دون وجه حق، فالغصب اعتداء على الأموال.

ومن أسوأ أنواع الاعتداء: الغصب؛ لأن الغصب فيه نوع من القهر، والقهر فيه إذلال، والعبد قد يختار الموت على أن يعيش ذليلاً، ولذلك من الناس من إذا غصب حقه مات من الكمد والألم ولربما أصابه مرض نفسي فطاش عنه عقله، وعزب عنه رشده بسبب ما يجده من ظلم وقهر، ولذلك استعاذ صلوات الله وسلامه عليه بربه وقال: (أعوذ بك من قهر الرجال) فالقهر أمره عظيم.

فالسارق إذا سرق بالليل أو سرق خفية أخذ المال وذهب، ولكن الغاصب يأتي بقوته واستعلائه وجبروته ويفرض على الإنسان أخذ ماله فيأخذ ماله ويستمتع به، والمغصوب منه يرى ماله يؤكل بدون حق، فهذا من أبلغ ما يكون من الأذية والإضرار وانتهاك حق المسلم وضياع ما أوجب الله عز وجل له من حقوق! كذلك أيضاً: صرح عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح بتعظيم أمر الغصب، وقال عليه الصلاة والسلام: (من ظلم قيد شبر من أرض طوقه يوم القيامة من سبع أرضين) وهذا الحديث صحيح، يقول العلماء: فيه جملة من المسائل: أولها: أنه يدل على تحريم الغصب؛ لأن القاعدة في الأصول: أن الفعل إذا ترتبت عليه عقوبة في الدنيا وعقوبة في الآخرة أو فيهما معاً، أو جاء فيه وصف مشعر بالذنب دلّ على حرمته، وعدم جوازه، فهذا الحديث يدل على حرمة الغصب، وهذا محل إجماع.

ثانياً: أنه يدل على أنه كبيرة من كبائر الذنوب؛ لأن القاعدة في الكبيرة: كل ذنب سماه الله ورسوله كبيرة، أو توعّد عليه بعقوبة في الدنيا أو عقوبة في الآخرة أو فيهما معاً، وهذا قد توعّد الله عز وجل عليه بأن يطوق صاحبه من سبع أرضين يوم القيامة، قال بعض العلماء: يطوق يوم القيامة من سبع أرضين على الحقيقة، والله على كل شيء قدير.

قالوا: يمد عنقه -والعياذ بالله- حتى يسع القدر الذي اغتصبه من مال أخيه ويطوق من سبع أرضين على حقيقة، والله لا يعجزه شيء.

فضرس الكافر الذي يعذب في نار جهنم يوم القيامة مثل أحد، وجبل أحد لا يقل عن أربعة كيلو مترات، وهذا الضرس فقط، ويقول عليه الصلاة والسلام: (إن الكافر -كما في الصحيح- مقعده في نار جهنم كما بين المدينة وبيت المقدس) فالله على كل شيء قدير، ولا يعجزه شيء سبحانه وتعالى.

فيطوق على الحقيقة، وهذا الذي نؤمن به: أن النبي صلى الله عليه وسلم خاطبنا بلسان عربي مبين، أنه إذا ظلم أخاه المسلم قدر شبر أنه يطوق يوم القيامة من سبع أرضين، أما كيف ذلك؟ فالله سبحانه وتعالى لا يعجزه شيء.

وكذلك أيضاً أجمع العلماء -رحمهم الله- على أنه لا يجوز الغصب سواء كان ذلك في العقارات، أو كان في المنقولات، وأن الواجب على المسلم أن يحفظ لأخيه المسلم حقوقه، وألا يعتدي على تلك الحقوق، ولا يعين على الاعتداء عليها.

وتحريم الله عز وجل ورسوله عليه الصلاة والسلام للغصب لما فيه من الظلم، والظلم من أعظم الكبائر، قال تعالى في الحديث القدسي: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا).

فالأرض يعظم فيها الفساد ويكثر فيها الشر إذا انتشر فيها الظلم، والله يمسك قطره من السماء، ويمحق البركة في الأرض إذا كثرت مظالم العباد، وبالأخص كما ذكرنا في مسائل الغصب، فإن الغصب يقطع أواصر الأخوة، ويشتت الناس شيعاً وأحزاباً، ويجعل الناس لا تثق ببعضها، ويجعل حمية الدين تقتل في القلوب وتقطع، حينما يرى المسلم يؤكل ماله وينتهك عرضه ولا يغار عليه، ولا يحفظ له ذلك المال، ولا يحفظ له ذلك العرض.

ولذلك أجمع العلماء رحمهم الله على أن الواجب على المسلم أن يبتعد عنه وألا يعين عليه، فقد يعين الإنسان على الغصب بكلمة تخرج من فمه، ولربما بإشارة، فالواجب على الإنسان أن يتقي هذه الكبيرة العظيمة وأن يخاف الله سبحانه وتعالى فيها.

والعلماء ذكروا مسائل الغصب من وجوه، فيعتني الفقهاء رحمهم الله ببيان حقيقة الغصب وبم يكون الغصب؟! كذلك أيضاً يعتني الفقهاء رحمهم الله ببيان مواضع الغصب، وفي أي شيء يكون؟! وكذلك اعتنى العلماء ببيان الآثار المترتبة على الغصب.

فإن الله لما حرّم الغصب أوجب لهذا الذنب تكفيراً يكون برد العين المغصوبة، سواء كانت زائدة أو كانت ناقصة أو كانت كما هي، فإن كانت كما هي فلا إشكال، ويجب ضمان أجرتها إذا حبسها، وإذا كانت ناقصة فيجب عليه ضمان النقص، وإذا كانت زائدة ردها مع الزيادة، سواء كانت الزيادة متصلة أو كانت منفصلة، ثم يتكلم العلماء على مسألة التصرف في المغصوب، فلو أنه تصرف فيه حتى غير شكله وغير هيئته فأنقص منافعه، أو تصرف فيه فتغيرت بعض المنافع وعوض عنها بمنافع أخر، فكل هذه المسائل يعتني العلماء رحمهم الله ببيانها، وهذا من كمال الشريعة الإسلامية.

فالشريعة الإسلامية من سمو منهجها وكمال أحكامها وتشريعاتها أنها لا تقف عند تحريم الشيء، بل تبين حرمة الشيء والآثار المترتبة على تلك الحرمة، ولم يقف قضاء الإسلام يوماً من الأيام عاجزاً أمام مشكلة أو قضية سواء تعلقت بالغصوبات وآثارها أو بغيرها.

فالعلماء يتحدثون عن هذه المسائل لأنها تبعات وآثار مترتبة على الغصوبات، وهذا هو الذي سيعتني المصنف رحمه الله ببيانه، وتختلف المتون الفقهية ما بين مطول ومختصر؛ ولعل الإطالة والاختصار بسبب أن الفقيه قد يكون يرى حكماً تترتب عليه آثار، وقد لا يرى غيره ذلك الحكم فلا تترتب الآثار، فالذي يرى الحكم يفصل في آثاره.

فمثلاً: إذا قال: المغصوب تضمن زيادته، ولا يفصل سواء كانت الزيادة متصلة أو منفصلة، فحينئذٍ سيتكلم على جميع ما يكون من الزيادات، لكن إذا قال: لا يضمن الزيادة المنفصلة، ويفصل بين الزيادة المتص

طور بواسطة نورين ميديا © 2015