قال رحمه الله: [والوضوء لأكل ونوم] قد ثبت في حديث أم المؤمنين عائشة عند أحمد ومسلم في صحيحه رحمة الله عليهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان جنباً وأراد أن ينام أو يأكل توضأ) ومن العلماء من قال: هذا الوضوء وضوء الجنب، وهذا الوضوء لا ينتقض، فلو توضأ ثم خرج منه ريح فإنهم يقولون: لا ينتقض وضوءه بل يبقى على وضوئه، وهو الوضوء الذي يلغز به بعض الفقهاء فيقولون: متوضئ لا ينتقض وضوءه لا ببول ولا غائط ولا ريح، فقد تقول: المستحاضة، فيقال: هذه معذورة، لكن هذا غير معذور، فيكون
صلى الله عليه وسلم هو وضوء الجنب، كما أشار إلى ذلك السيوطي بقوله: قل للفقيه وللمفيدِ ولكل ذي باعٍ مديدِ ما قلت في متوضئٍ قد جاء بالأمر السديدِ لا ينقضون وضوءه مهما تغوط أو يزيدِ فهذه من ألغاز الفقهاء، فلو أن إنساناً أراد أن ينام فغسل فرجه ثم توضأ، وقبل أن ينام خرج منه ريح، فيقول: ما دام النبي صلى الله عليه وسلم أمرنا أن نتوضأ في الجنابة قبل النوم، إذاً فقد انتقض الوضوء، مع أنه يكاد يكون إجماعاً أنه لا ينتقض هذا الوضوء بخروج الخارج؛ لأن المراد به -كما يقولون-: أنه أرفق بالأعضاء، والغالب أن الإنسان إذا حصل منه الإنزال ضعف بدنه، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام في الغسل عند معاودة للوطء: (فإنه أنشط للعود) وسبحان الله! ما أكرم الله علينا بهذه الشريعة! فنحمد الله تبارك وتعالى على هذه النعم الظاهرة والباطنة، ولهذا فالخير الكثير والرحمة المهداة والنعمة المسداة التي أكرمنا الله عز وجل بها في هذه الشريعة السمحاء، نسأل الله العظيم أن يحيينا عليها وأن يرزقنا طهارتها وأن يميتنا عليها.
وعندما تنظر إلى الكفار ترى الواحد منهم ربما أقبل عليك فلا تستطيع أن تتحمل نتنه وقذارته؛ لأنهم لا يغتسلون ولا يزيلون الحدث، حتى ذكر بعض المؤرخين والمتأخرين أن أوروبا عاشت إلى قرون قريبة -إلى قبل القرن العاشر بيسير- وهم لا يعرفون الغسل، ولا يحسنون تنظيف أبدانهم، وهم الذين يقولون: إنهم أهل الحضارات، وما عرفوا الحضارة إلا من الإسلام، ولا عرفوا الطهارة ولا النقاء إلا من هذه الأحاديث النبوية عن النبي صلى الله عليه وسلم التي ما تركت قليلاً ولا كثيراً، والحمد لله الذي جعلنا مسلمين؛ والله أخبر أنه يريد أن يطهرنا، فطهرنا سبحانه حساً ومعنى، وهذا من سماحة الشريعة ومن يسرها وفضلها.
وقوله: (والوضوء لأكل) لحديث عائشة.
(ونوم) لحديث عمر رضي الله عنه في الصحيحين، وكذلك في حديث عائشة [(ومعاودة وطء) أي: معاودة الجماع، فلو أن إنساناً جامع أهله ثم أراد أن يعود فإن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (إذا جامع أحدكم أهله ثم أراد أن يعود فليتوضأ) فعندنا الآن: الوضوء للنوم، والوضوء للأكل، والوضوء لمعاودة الجماع.
وظاهر الأحاديث الأمر: (فليتوضأ) (توضأ واغسل فرجك ثم نم) كلها أوامر، فهل هذا الوضوء واجب؟ وجهان للعلماء: وأصحهما قول الجمهور: أن الوضوء ليس بواجب على الجنب، لا للأكل ولا للنوم ولا للجماع، لقوله عليه الصلاة والسلام: (إنما أمرت بالوضوء للصلاة) وهذا هو ظاهر القرآن: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} [المائدة:6] فدل على أن لزوم الوضوء إنما يكون عند إرادة الصلاة، وفرع من هذا عدم الوجوب لغير الصلاة، وفيه حديث عمار أنه رخص للجنب، يعني: في ترك وضوئه عند إرادته الأكل أو النوم، ولكنه متكلم في سنده، لكن الأقوى: (إنما أمرت بالوضوء للصلاة).
إذا ثبت هذا: فالأمر بالوضوء للجنب على الاستحباب والندب لا على الوجوب والحتم، فلو أنه ترك هذا الوضوء لم يجب عليه، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم سنية الوضوء لمعاودة الجماع، وقال عليه الصلاة والسلام في بيان العلة: (فإنه أنشط للعود) فقوله: (إنه أنشط للعود) يخرج النص عن الوجوب إلى الندب والاستحباب، وهي قرينة تصرف الحديث من الأمر إلى الندب، ففي هذا الحديث ذكرها العلماء، لكن أظهرها قولهم: أنه للندب والاستحباب لا للحتم والإيجاب.