حكم العارية

أجمع العلماء -رحمهم الله- على أن العارية مشروعة، ولكن اختلفوا في حكمها، هل يجب عليك أن تعير الأشياء، أو يندب لك، أو يباح، هناك أوجه: بعض العلماء يقول: إن العارية مباحة من حيث الأصل، وجائزة، ومنهم من يقول: ليست مباحة فقط بل مندوبة.

وهذا هو الصحيح، بمعنى: أنه ينبغي للمسلم أن يحرص عليها، ولا يفوته خيرها وبرها، ولذلك ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن العبد إذا مر به أخوه المسلم وهو في الطريق واحتاج إلى الماء فمنعه وهو قادر على أن يعطيه -وهذا في غير العارية كما هو معلوم- أن الله تعالى يقول: (سألك عبدي أن تعطيه الماء فمنعته، فاليوم أمنعك فضلي كما منعته فضل مائك) فهذا يدل على أنه لا ينبغي للمسلم أن يمنع إخوانه المسلمين من الانتفاع بالأشياء التي لا يحتاج إليها، والتي يكون في سعة منها، حتى ولو كان ذلك مدة معينة، فيقول له: أعرتك كتابي أو قلمي أو سيارتي، ويحدد ذلك على حسب ما يمكنه أن يبذله من منفعة ذلك الشيء المعار.

وقد تكون العارية واجبة، وذلك إذا احتاج إلى شيء عندك توقف عليه إنقاذ نفس محرمة، فلو أن غريقاً سقط في بئر ولا يمكن إخراجه إلا بحبل عندك وليس موجوداً عند غيرك، وبإمكانك أن تعطي الحبل ولا ضرر عليك؛ فإنه إذا امتنع في هذه الحالة يعتبر آثماً في قول جماهير العلماء رحمة الله عليهم؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فالله أوجب علينا إنقاذ النفس المحرمة من الهلاك، فإذا كان إنقاذها واجباً فقد توقف تحقق هذا الواجب على فعل وهو إعارة الحبل أو الشيء الذي يمكن تخليصه به، كذلك لو احتاج جارك أو صديقك شيئاً لمريض عنده أو مكروب أو نكبة نزلت به أو نحو ذلك، فإنه يجب عليك ويتعين أن تعطيه؛ لأنه ليس هناك غيرك، ويجب عليك في هذه الحالة أن تبذل ما تستطيعه لإنقاذ هذه النفس المحرمة أو دفع الضرر عنها.

وتكون العارية مندوبة إذا كان فيها توسعة على الجار وعلى الأخ والقريب، وتختلف درجات الندب، فإعارة الشيء للقريب أعظم أجراً من إعارته للغريب، ففيها أجران، أجر العارية وأجر صلة الرحم، ومن وصلها وصله الله عز وجل، كما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإعارة الجار ليست كإعارة غير الجار، فإذا أعرت الجار كان الأجر أعظم، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم يخاطب نساء المؤمنين: (لا تحقرن جارة لجارتها ولو كفرسن شاة) يعني: لا تحتقر أمة الله عز وجل ما تقدمه لأختها المسلمة من جيرانها ولو كان كفرسن شاة، وهو اللحم اليسير الذي يكون بين أظلاف الدابة، فهذا شيء حقير جداً، ولكن هذا الحقير عند الله عظيم الأجر؛ لما فيه من الإحسان للجار.

ولو أنك نظرت إلى الشيء الذي يعار؛ فإعارة ما فيه مصالح دنيوية أجره أقل من إعارة ما فيه مصالح دينية، ومن ذلك إعارة كتب العلم لمن يحفظها ويحافظ عليها، وينتفع بها، فإن هذه الإعارة أعظم أجراً والندب فيها آكد من الإعارة لشيء دنيوي، وإعارة السيارة لطالب علم يذهب لطلب علم والمعونة له على طلبه للعلم، أعظم أجراً من إعانته على أمر دنيوي.

فإذاً العارية تتفاوت من جهتين: أولاً: من جهة الشخص الذي يستعير؛ من حيث قربه من الشخص وعدم قربه، وعظيم حقه على الشخص، وذلك على حسب تفاوت الناس في مراتبهم في الحقوق.

ثانياً: من جهة الشيء الذي يستعار، فإن كان الشيء الذي يستعار لمصلحة أفضل فالأجر فيه أعظم، وإذا كان لمصلحة مفضولة فالأجر فيه أقل، هذا بالنسبة للمندوبة.

وتكون العارية محرمة إذا أعارها لشيء حرام يعينه بها -والعياذ بالله- على قطيعة رحم، أو عقوق والدين.

مثلاً: لو أن شخصاً خرج إلى سفر ووالداه لم يأذنا له بالسفر، وهما بحاجة إليه، وقد خرج في نزهة أو صيد، وأنت تعلم أن والده لا يأذن له وغير راضٍ على خروجه، فخروجه عقوق لوالديه، فإذا مكنته من سارتك فقد مكنته من العقوق.

فإذاً: تكون العارية حراماً إن توصل بها إلى حرام، وتصبح المسألة تابعة لمسألة: (الوسائل تأخذ حكم مقاصدها) فإن كانت العارية وسيلة إلى واجب فواجبة، وإن كانت وسيلة إلى مندوب فمندوبة، وإن كانت وسيلة إلى مكروه فمكروهة، وإن كانت وسيلة إلى محرم فمحرمة، وإن كانت خلية من الدوافع وسلمت من الموانع فإنها مباحة مستوية الطرفين.

هذا بالنسبة لحكم العارية من حيث الأصل، وهذا الباب يعتني العلماء -رحمهم الله- فيه ببيان حقيقة العارية، وما تجوز إعارته وما لا تجوز، وكذلك أيضاً بيان الأثر المترتب على العارية، ويعتبر هذا الباب مما تعم به البلوى، فالناس يستعير بعضهم من بعض، ويحتاج بعضهم إلى الحوائج الموجودة عند البعض، يقضون بها مصالحهم، ويرتفقون بها في معاشهم، فلذلك تنشأ الأسئلة عن هذا النوع من العقود، وقد تحدث هناك أضرار في الشيء الذي يستعار، فيرد السؤال من الناس عن كثير من هذه المسائل والأحكام.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015