Q أنا شاب ملتزم قريباً، وأنا في حيرة، فبم تنصحني في كتابة العلم؟ ومع من أسير في هذا الطريق؟
صلى الله عليه وسلم أوصيك أخي في الله: أولاً: أن تحمد الله سبحانه وتعالى، قل: الحمد لله الذي هداني لهذا، وما كنت لأهتدي لولا أن هداني الله، وإن الله تعالى قد تأذن بالزيادة لمن شكر، فقرن المزيد بشكره، ووعد سبحانه وتعالى أنه ما من عبد يشكره بقلبه وبلسانه، وبجوارحه وأركانه إلا أتم نعمته عليه.
فاحمد الله عز وجل واشكر هذه النعمة أن أخرجك من الظلمات إلى النور، واحمد الله سبحانه وتعالى أن وجدت الشيء الذي طالما يتمناه كل مخلوق خلقه الله تعالى من أجل عبادته.
أما الأمر الثاني بعد شكر الله عز وجل: فأوصيك بالثبات على طاعته، فإن من دلائل البركة في النعم أن يثبت الإنسان عليها، فإذا أراد الله أن يتمم عليك النعمة، وأن يبارك لك فيها، تممها بالثبات.
ولذلك كان ابن عمر رضي الله عنهما كما ثبت عنه في الرواية الصحيحة، كان إذا رقى على الصفا قال دعاءه المشهور: (اللهم إنك أمرتنا بدعائك، ووعدتنا أن تستجيب، وإنك لا تخلف الميعاد، اللهم كما هديتني للإسلام فلا تنزعه مني أبداً حتى تتوفاني عليه).
فكان يسأل الله عز وجل أن يثبته على الحق، وأن لا يزيغ قلبه؛ وهذه دعوة الصالحين، والأبرار المتقين، كما قال الله سبحانه وتعالى في كتابه المبين حكاية عنهم: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران:8]، فعليك بالثبات على هذا الخير.
ومن أعظم الأمور التي يثبت الله عز وجل بها من اهتدى: الاستكثار من طاعة الله، والجد والاجتهاد في مرضاة الله، ألا وإن أفضل ما يستكثر به العبد من طاعة الله: كثرة ذكر الله عز وجل، فأكَثِر من ذكر الله بالاستغفار والتسبيح والتحميد والتكبير.
إن الإنسان ربما تمضي عليه عشر دقائق يستطيع أن يستغفر فيها ما لا يقل عن مائة مرة، ولربما تجلس ربع ساعة وأنت تسأل الرجل كيف حالك، كيف أهلك؟ كيف إخوانك؟ ووالله قد تبلغ في بعض الأحيان مئات من التسبيح والاستغفار والتحميد والتكبير، وجرب ذلك.
حين تكون جالساً للحظاتٍ يسيرة، وتستطيع في بعض الأحيان أن تستغفر عشرة آلاف مرة في خلال ساعة، أو ساعة ونصف، فهي كنوز عظيمة وأجر عظيم ونحن في غفلة عنها، ومثل هذا الذكر هو الذي يثبت الله به قلب العبد على طاعته، فإن الله يقول: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة:152].
ولا يزال العبد في حرز من الشيطان، وحرزٍ من الخذلان، وحرز من الخيبة والخسران، ما ذكر العظيم الرحمن، فلذلك أوصى الله بذلك عباده المؤمنين فقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ} [الأحزاب:41]، وما وقف عند هذا حتى قال: {اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الأحزاب:41 - 42]، فأكثر من ذكر الله عز وجل واستكثر من الخير.
ومن أهم الأسباب التي تعين على الثبات، وتجعلك على خير، وتفتح لك أبوب هذا العلم: برك لوالديك، فبعد ذكرك وكثرة ذكرك لله عز وجل بالاستغفار والتسبيح والتحميد، وغير ذلك مما شرعه الله من ذكره، وقراءة القرآن، تبر والديك، فإن الله يفتح لك أبواب الرحمة، فرضي الله عمَّن أرضى والديه.
أمَّا ما سألت عنه من العلم فأوصيك أخي في الله: أولاً: بالإخلاص الذي يبارك الله به في قولك، وعملك، وظاهرك، وباطنك، وليلك، ونهارك، فلا يبارك لطالب العلم في علمه إلا بالإخلاص، كما ذكرنا.
ومن الإخلاص أن لا تخرج من بيتك لأي مجلس من مجالس العلم، ولا تخرج لمحاضرة، ولا تخرج لزيارة أخٍ لك في الله، إلا وأنت تريد ما عند الله عز وجل، ودائماً تتهم نفسك بالتقصير، وإذا وجدت في نفسك التقصير فالجأ إلى الله سبحانه وتعالى أن يجبر كسرك، وأن يغفر ذنبك، فإن الله غفور لمن استغفر.
ثانياً: إذا رزقك الله الإخلاص، فعليك أخي في الله أن تحرص على كل كلمة تسمعها، فإن أرفع الناس منزلة في العلم من جمع فأوعى، وأعظم الناس أجراً في هذا العلم من ضبطه على أتم الوجوه وأكملها.
ولذلك دعا النبي صلى الله عليه وسلم لمن حفظ هذا العلم على أتم الوجوه وأكملها، فقال عليه الصلاة والسلام: (نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها، فرب مبلغ أوعى من سامع).
فيحفظ الإنسان هذا العلم حفظاً متقناً، وأنت تعلم أن الله يرضى عنك ذلك، وأن الله يحب منك ذلك، واعلم أن من دلائل الإخلاص إتقان هذا العلم، فلا تُضع منه كلمة.
واعلم أن من الأمور التي تعينك على عدم تضييع شيء في مجلس العلم: ألا تنتقص نفسك وتحقرها؛ لأن الشيطان دائماً يقول لك: من أنت حتى تفهم كل ما يقوله الشيخ؟ ومن أنت حتى تضبط كل هذا المجلس؟ أبداً والله لقد جلسنا في العلم ونحن لا نفقه شيئاً، ونقول هذا اعترافاً بفضله سبحانه وتعالى، ووجدنا قوله تعالى: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء:113].
فالله إذا علم من قلبك أنك تحب إتقان العلم فتح عليك، ويسر لك وأعانك، فلا معين غيره، ولا ميسر سواه؛ فلتكن عندك همة صادقة في حسن الظن بالله، فإذا جلست للعلم فلا تقل: لا أفهم هذا الكلام كله، فقد جلسنا في مجالس العلم وكنا صغاراً ولم نكن نفهم كثيراً مما يقال، فما مضت فترة إلا وأصبحت هذه الكلمات مثل الغذاء لأرواحنا، نهلك إذا جعنا ونحس بالظمأ إذا افتقدناها.
فالإنسان ينبغي عليه أن يوطن نفسه دائماً على حسن الظن بالله، ولو أن أي شخص إذا أتى إلى أي مسألة، أو مهمة، أو عمل، وهو لا يفقه في هذا العمل شيئاً، وقيل له: إذا ما أتقنت هذا الشيء سيحدث كذا، أو يصير كذا، فإنه سيحصل كل صغيرة وكبيرة.
فالنفس فيها طاقة، وفيها قوة، ولكن الإنسان ينبغي أن يعلم أن هناك شيطاناً يخذله، وأن هناك عدواً لدوداً يقول له: من أنت حتى تفهم؟ من أنت حتى تعلم؟ ومن أنت حتى تكون عالماً؟ قل: إن الفضل كله لله، فالفضل كله لله سبحانه وتعالى، وإنما عليك أن تحسن الظن بالله تعالى.
فقد كنا نسمع بعض المسائل ونحن في ابتداء طلب العلم، وما كنا نظن أننا سنسأل عنها وكان المشايخ يوصون بضبطها وإتقانها، حتى سئُلنا عنها في الأمم، وأفدناها وانتشرت بين الناس، وما كنا نظن أنه يأتي اليوم الذي نُبلى فيه هذا البلاء الحسن.
ولكن من تعب وجد واجتهد، وكانت له البداية المحرقة، فإن الله يجعل له النهاية المشرقة، فمن جد وجد، ومن زرع حصد، وإن المعروف لا يبلى والخير لا ينُسى، والله جل وعلا لا يضيع أجر من أحسن عملا.
فتتقن هذا العلم، ولا تقل: إني صغير، فأنت كبير بهمة صادقة وبنية صادقة مخلصة لوجه الله عز وجل، وبجد واجتهاد، وترى -بإذن الله عز وجل- عواقب هذا الجد والاجتهاد حينما تمضي كل فترة وأنت تحس أنك تبني على أساس مستقيم.
أما لو جلس طالب العلم في مجالس العلم وهو ضعيف وبنفس منهزمة، ويقول: هذا علم كثير والشيخ مستواه كبير فلن ينتفع، فما عليك إلا أن تجد وتجتهد، وتفرض على نفسك الواقع الذي تراه، وتحس برحمة الله بكل كلمة تسمعها، وفي كل حكمة تعلمها.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا العلم النافع، والعمل الصالح، وأن يجعل هذا العلم خالصاً لوجه الكريم، موجباً لرضوانه العظيم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.