نبه بعض العلماء، وبعض المتقدمين رحمهم الله تعالى على أنه لا يجوز أن تجعل المناضلة وسيلة لإثار الشحناء والبغضاء، فإذا حضر المناضلة أشخاص آخرون غير المترامِيْنِ فلا ينبغي أن يشجع أحدهم الآخر على وجه يوغر به صدر الآخر على أخيه، ولذلك قالوا: إنه ينبغي أن يكون ذلك على وجه يعين على الإحسان لا على الفرقة، ولا على الشحناء ولا على الخلاف، ولا على إغارة الصدور بعضها على بعض؛ لأنه إذا ذموا المقصر وأهانوه وأذلوه، أوغر ذلك صدره على أخيه المسلم، فبدل أن تحصل المصلحة للجهاد في سبيل الله عز وجل من اجتماع القلوب واجتماع المسلمين على القوة في سبيل الله عز وجل -ومن أعظم ذلك-: اجتماع القلوب، يصبح العكس، والله تعالى قرن افتراق القلوب بالفشل فقال سبحانه وتعالى: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال:46].
ومن هنا: إذا كانت المسابقة في الرمي بالسهام فيها إغارة للصدور بعضها على بعض، فإن هذا يؤدي إلى مفسدة قد تفوق المصلحة التي من أجلها شرع الرمي.
ولذلك نبه العلماء رحمهم الله تعالى على أنه لا يجوز عند الانتضال بالسهام أن يُذَمَّ من قصر، وأن يمدح الذي أصاب على وجه تحدث به الفتنة، وفرعوا على ذلك مسائل، منها: مسألة المدح لطالب العلم إذا أصاب والذم لمن قصر من طلاب العلم، وهذه المسألة اختلفت فيها أقوال العلماء رحمهم الله تعالى، فمن أهل العلم من قال: الأفضل للعالم والأتم له والأكمل أن يُنقي علمه، وألا يمتحن طلابه بالسؤال؛ لأنه ربما سأل الطالب أمام الناس وفتن، وأصابه العجب وأصابه الرياء بالجواب أمام الناس، وفي ذلك مفسدة قد تفوق المصلحة التي من أجلها شرع العلم، ولأنه لا يؤمن عليه من العجب، وغير ذلك من المفاسد التي قد تترتب على بروز الشخص وظهوره، وقد يكون الذي يجيب عند طرح السؤال صغير السن، وإذا تصدر الحدث افتتن، كما قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: (إذا تصدر الحدث افتتن)، قالوا: ولأن طالب العلم إذا لزم في مجالس العلم السكينة والوقار والاستماع، فإن ذلك أتم للخشوع وأكمل للوقار، وأعظم في هيبة العلم، وأعظم في السكينة، خاصة وأنه يكون بعيداً عن الرياء، وبعيداً عن ما يشوش فكره عن التركيز لفهم المراد.
وقالوا أيضاً: والغالب من هدي النبي صلى الله عليه وسلم وفعله أنه لم يكن يمتحن أصحابه، ولم يكن يسألهم، وإنما كان يلقي العلم، ولأنه ربما سأل طالب العلم، وكان في ذلك الوقت مشغول البال بهم أو غم أو كرب نزل به، أو شرد ذهنه بسبب ضعف البشر، فإن الإنسان يسهو في صلاته فضلاً عن مجلس العلم، قالوا: فلا يأمن أن يكون من خيرة طلاب العلم فيسأله أمام الناس فيحرجه، ولأجل هذه المفاسد كلها قالوا: الأفضل والأكمل أن يقتصر على إلقائه للعلم، وأن لا يكون السؤال سبباً للفتنة.
ومن أهل العلم من قال: إنه يستحب أن يسأل العالم طلابه حتى يتأكد ويتحقق أنهم فهموا ووعوا، وذلك لأن السؤال فيه إحراج للإنسان، فإذا أحرج المسئول خاف غيره السؤال، وهذا مجلسٌ للعلم، إلى غير ذلك مما ذكروه من مقاصد.
وتوسط بعض العلماء في المجالس العامة، والمجالس الخاصة، فقالوا: إذا كانت المجالس لخاصة طلاب العلم، ويقصد منها الضبط، فالأفضل أن تقوم على السؤال والمحاورة، والمذاكرة والضبط، وأما إذا كانت عامة فيها من يحسن ومن لا يحسن، فلا شك أن القول بعدم السؤال أبلغ وأتم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم سأل الصحابة عن الشجرة، وسألهم عن مسائل خاصة في المجالس الخاصة، ولم يسأل في مجالسهم العامة، وقالوا: إن هذا أبلغ وأبعد عن الرياء، فالشاهد في مسألة مدح من يجيد وذم من يخطئ أنهم قالوا: إن المفاسد في ذلك عظيمة، والأفضل والأكمل أن يكون على هدي السلف الصالح من إلقاء العلم، دون تعرض لمدح من أحسن وذم من أصاب.
إلا أنه لا بأس أن يمدح طالب العلم إذا غلب على الظن أن ذلك يشجعه على طلب العلم، ويقوي نفسه ويشحذ همته، وتؤمن الفتنة، أما إذا غلب على الظن أنه سيفتن، وسيغتر، وأنه يحب الظهور ويحب المدح، فلا شك أنه لا تجوز إعانته على ما لا يرضي الله عز وجل، ومن تأمل هدي النبي صلى الله عليه وسلم وهدي الأئمة والسلف فإنه يجد أن هديهم على إلقاء العلم دون تعرض للسؤال حتى كان بعض العلماء يقول: لا أحب للعالم أن يسأل طالب العلم: أفهمتَ؟؛ لأنه يُخشى أن يجامله فيقول: فهمت، فيكذب، فيحمله على الكذب.
فالأفضل والأكمل أن يدعه لله تعالى، ولا شك أن طالب العلم إذا تُرك لله عز وجل، وتُرك أمره فيما بينه وبين الله عز وجل، لا شك أنه سيصيبه الخير إن أخلص، ويحرم -والعياذ بالله- على قدر ما فاته من الإخلاص.