حجية الإجماع

Q معلوم أن الإجماع أحد أدلة الشرع، ولكن -كما تعلمون- أن انعقاد الإجماع المنضبط لا يكاد يقع بعد عهد الصحابة، ولا يخفاكم قول الإمام أحمد: من ادعى الإجماع فهو كاذب.

وقول العلماء: إن في حكاية ابن المنذر وابن عبد البر وغيرهما الإجماع فيه نظر.

وبناء على ذلك: هل الإجماع الذي يحكى في كتب العلماء لا يعتبر باعتباره إجماعاً غير منضبط؟ وهل يرى فضيلتكم أن اتفاق العلماء في المجمع الفقهي في العصر الحاضر يعتبر إجماعاً وحجة؟

صلى الله عليه وسلم الإجماع حجة، قال تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء:115] فتوعد الله من ترك سبيل المؤمنين، وكان الصحابة رضوان الله عليهم يحتجون بإجماع من قبلهم، فيحتجون بما كان على عهد أبي بكر وعهد عمر فيقولون: فعله النبي صلى الله عليه وسلم وفعله أبو بكر والصحابة معه.

فيحتجون بذلك.

أما مسألة من ادعى الإجماع: أولاً: الإجماع: اتفاق جميع مجتهدي الأمة في عصر بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم على أي حكم شرعي.

فهو من حيث الأصل اتفاق جميع المجتهدين، إلا أنه قد يتعذر ضبط الجميع، وإنما المراد اشتهار المسألة ونص العلماء عليها في كتبهم وتناقلهم، وهذه الكتب مشهورة معروفة ولا يعرف من أنكرها أو خالفها؛ لأنه لو وجدت دواعٍ للنقل والبواعث على النقل موجودة ولم يوجد من ينقل عنه المخالفة دل ذلك على عدم الوجود غالباً؛ لأن غالب الظن يحتكم إليه.

فنحن نقول: اعلم رحمك الله أن الإجماع حجة، وقول الإمام أحمد: من ادعى الإجماع فقد كذب.

على حالتين: إما أن يكون مراده رحمه الله شيئاً خاصاً، بمعنى أن قوله: من ادعى الإجماع.

يعني به الإجماع بكل شخص من الأمة بغض النظر عن كونه مجتهداً أو غير مجتهد، فهذا صحيح؛ لأنه لا يمكن اتفاق كل الأمة وإجماع كل الأمة، وهذه عبارات تأتي عن بعض الأئمة يقصد منها المصطلحات الخاصة، يعني: من ادعى الإجماع بغير المصطلح الخاص -وهو اتفاق العلماء- فقد كذب؛ لأنه لا يستطيع إثبات أن كل الأمة أجمعوا على ذلك، وقد كان الإمام أحمد رحمة الله عليه كإخوانه من الأئمة، لكن له مواقف عجيبة بديعة في الورع، فكأنه يقول: يا من تحكي الإجماع! ينبغي أن يكون عندك ورع، أي: لا تعتقد أن الأمة كلها أجمعت.

وليس المراد أن الإجماع ليس بموجود؛ لأنه هو نفسه احتج بالإجماع، ولا يختلف اثنان أن مذهب الإمام أحمد على أن الإجماع حجة، ونص الكتاب والسنة لم يخالفه رحمة الله عليه، بل إنه لما ذكر المساقاة والمزارعة حكى فيها إجماع الصحابة ومن قبلهم.

بل الإمام أحمد بن حنبل نفسه رحمة الله عليه يحكي الإجماع ويحتج بالإجماع، فمن يعرف فقه الإمام أحمد ويعرف تماماً الإمام أحمد يعرفه بالورع رحمه الله برحمته، فكأنه ينبه كل من يحكي الإجماع ألا يعتقد أنه إجماع لكل الأمة بمعناه الحقيقي، فمن ادعى الإجماع بمعناه الحقيقي لا معناه الاصطلاحي فقد كذب، ليصبح من يدعي الإجماع ويقول الإجماع من الفقهاء عنده ورع وعنده تحفظ، وهذا هو العلم: أن العلماء يضعون أشياء اصطلاحية وأشياء أصلية مبنية على اللفظ؛ لأن الإنسان مؤاخذ بلفظه، والإمام أحمد كان يتورع حتى في اللفظ، حتى الحرام يقول: أكرهه.

وكان ينفض يديه، وكان يتغير وجهه؛ أن يقول: هذا حرام.

رحمته الله برحمته الواسعة، وجزاه عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم خير الجزاء، فكان على ورع عظيم رحمه الله.

الشيء الثاني: نحن عندنا النصوص واضحة في أن الإجماع حجة، وأما مسألة أن بعض العلماء يتسامح في نقل الإجماع، فاعلم رحمك الله أن الإمام ابن عبد البر حينما ينقل الإجماع ليس من باب التساهل ولا من باب التلاعب، وينبغي لك أن تنتبه لكلمات العلماء وحذر الشيوخ من الإجماع عن ابن عبد البر بالسماع ليس المراد به أن الحافظ الإمام الحجة ابن عبد البر كان متساهلاً، كلا والله، وليس من أهل التساهل، بل هو القدم الراسخة في العلم، فهو الثبت الحجة رحمه الله برحمته الواسعة، ولكن كان له عذره؛ لأنه كان بالأندلس، ويحكي الإجماع على قدر علمه، فيخفى عليه خلاف أهل المشرق، وكان أهل المغرب يخفى عليهم خلاف أهل المشرق.

وإما إجماع النووي فإياك إياك! فإن الإمام النووي إمام فقيه وحجة، وله باعه العظيم في حكاية الإجماع ومعرفة خلاف العلماء، ولكن من الذي يفهم كلام النووي؟! الإمام النووي يقول: واختلف أصحابنا.

ويكثر من حكاية أقوال أصحابه في خضم المسائل الخلافية، فيقول: واختلفوا هل يجوز أو لا يجوز على وجهين وعلى قولين، والأظهر والصحيح والأصح.

ثم يقول: وكل هذا إذا لم يقصر، فإن قصر فبالإجماع لا يجوز.

يعني: إجماع مذهبنا وإجماع أصحاب القولين، أي: ليس فيه قولان ولا وجهان أي: في مذهبه.

فيأتي من لا يحسن النظر ويقول: الإمام النووي حكى الإجماع في هذه المسألة، وقد أخطأ، وقد خالف المالكية وخالف الحنابلة.

وهو لا يريد الإجماع خارج المذهب، وهذه أوهام يقع فيها من لا يحسن تتبع كلام العلماء.

أما الإجماع فإنه حجة، ولا شك أنه يحتاج إلى نوع من التحري والضبط، ولا شك أن نقل العلماء المعروفين وتواتر النقل عنهم بأن هناك إجماعاً يوجب للمسلم أن يعمل بمثل هذا الإجماع.

وأقل ما يقال، وهو ختام ما نقوله: هب أنه ليس بإجماع، فإن أقل ما يقال فيه: إنه السواد الأعظم.

فإذا جاءك مثل الإمام النووي أو الإمام ابن قدامة رحمة الله عليهما ممن اشتغل بالخلاف واكتحلت عيناه بالسهر وهو يقلب في دوواين العلم، ووجد أن كل دواوين العلم تحكي ذلك، ولم يجد مخالفة، فماذا تقول؟ وأنت لو ذهبت إلى عالمين جليلين فاضلين وسألتهما، وكل منهما قال لك: لا يجوز، مثل أن نسأل مشايخنا نسأل الله أن يحفظهم وأن يجري أعمارهم بعفو وعافية ويجزيهم عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، لو ذهبت إلى عضوين من أعضاء هيئة كبار العلماء وسألتهما، وقالا: لا يجوز.

فعند ذلك تحدث في نفسك طمأنينة ورضا، فما بالك بأئمة العلم ودواوين السلف الذين كانوا آية من آيات الله عز وجل في العلم والعمل، إذا كان سوادهم الأعظم على هذا القول، هل ترضى نفسك أن تشذ عنهم وتخالفهم؟؟ فإياك إياك! إذا حكي الإجماع من العلماء الجهابذة الأثبات، فإنك تأمن بهذا وترتاح نفسك وتطمئن، وتتبع سبيل أمثال هؤلاء العلماء كما قال الإمام مالك؛ فحق على كل طالب علم أن تكون فيه سكينة ووقار، واتباع لآثار من مضى قبله.

والنقطة الأخيرة: مجمع الفقه مجمع له مكانته، وإذا اتفق العلماء في مجمع الفقه فليس بإجماع، لكنه له منزلته والفتوى منه لها منزلتها، وبالمناسبة: فإن مجمع الفقه وهيئة كبار العلماء بالتتبع والمعرفة أنهم لا يبحثون مسألة ولا يفتون في مسألة ولا يسقط قرار إلا بعد تعب شديد في تحري المسائل وتتبعها، وسؤال أهل الخبرة، وأقول: إياكم أن تظنوا أن هذه الفتاوى التي تصدر من هيئات كبار العلماء والمجامع الفقهية أنها سهلة، أحياناً بعض المسائل تدرس إلى ما يقرب من عشرة أشهر، وقد تطول إلى اثني عشر شهراً، وترجع وتؤخر لاستكمال النظر فيها، رزق الله هذه البلاد علماء عرفوا بالصلاح والخير، ووضع الله لهم القبول ووضع الله لهم الثقة بين الناس، فنسأل الله العظيم أن يوفقهم وأن يسددهم، وأن يجزيهم عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء.

وهذه ذمة على كل مسلم: أن يدعو لهم؛ لأن هؤلاء هم الذين يحملون الخير لهذه الأمة، ويحفظون ثغوراً عظيمة، فيكثر من الدعاء لهم، ويحسن الظن بهم، ويوثق في أقوالهم.

ونسأل الله العظيم أن يرزقنا حبهم، وأن يجمعنا بهم في دار كرامته {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ} [الشعراء:88] * {إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:89].

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015