وقوله: [لم تجن أيديهم].
بمعنى: أنها لم تتعد، مثلاً: في الجراحة لو كان يقطع عضواً تالفاً من المفصل، فزاد عن المفصل، فحينئذ يضمن هذه الزيادة، ولو قال: قصدت أن أؤذيه.
صارت جناية، وفيها القصاص إن أمكن القصاص، ولذلك فإن ضمان الطبيب إما أن يوجب القصاص إذا كانت متعمداً، كأن يسقيه دواء يعلم أنه يقتله واعترف أنه يريد قتله، فيجب عليه القصاص، وهذا بالإجماع؛ لأنه خرج عن كونه طبيباً إلى كونه قاتلاً وقاصداً القتل.
الأمر الثاني: في بعض الأحيان لو لم يقر، وجاءت الدلائل الواضحة، يقول -مثلاً-: وضعت له جرعة في حدود سبعين غراماً -مثلاً-، والسبعون غراماً عرف في علمه وطبه أنها قاتلة، وقيل له: وضعت له سبعين؟ قال: نعم.
وتعلم أنها قاتلة؟ قال: نعم.
نقول في هذه الحالة: كونك تعترف بالقتل أو لا تعترف لا يهمنا؛ لأنك تعلم أنه إذا سقي هذه الجرعة فسيموت، فإذا كانت الجرعة في الغالب تقتل، فعندها يصبح قاتلاً متعمداً سواء أفضت إلى الموت أو لم تفض، هذا بالنسبة للضمان في الجناية (ما لم تجن أيديهم)، فإذا جنت يده -يعني: قصد القتل- أوجب القصاص، الذي هو القود كما تكلمنا.
ثانياً: قد يسقط عنه القصاص إذا لم يقصد قتله وتعاطى الطب عن جهل ولكن أخطأ، وحصل الضرر، نقول له: تضمن، ويكون الضمان، إذا أتلف يد المريض فيها نصف الدية، نقول له: تدفع نصف الدية.
لكن لو أنه دفع نصف الدية هل ينتهي كل شيء؟ لا، الطبيب الجاهل لا يجوز تركه، بل يعاقب، ونص الأئمة والعلماء على أنه يجلد ويشهر به إذا كان التشهير يردع غيره؛ لأن هذا أمر يتعلق بأرواح الناس وأجسادهم، والأمر ليس بالسهل، فيجلد ويشهر به، ويعزر على قدر الجناية وعلى قدر العلم الذي ادعى معرفته.
فادعاء معرفة العلوم الطبية التي تؤدي إلى الخطر، مثل العقاقير السامة، والعمليات الخطرة، ليس كادعاء العمليات البسيطة والعلاج بالأشياء البسيطة، كل شيء له تعزيره الذي يناسبه، وهذا يرجع إلى القاضي وسيأتينا في باب التعزير.
فقوله: (لم تجن أيديهم) فتجني يده بالقص والعدوان -والعياذ بالله- وهذا يوجب القصاص، وتجني يده بالمجاوزة للحدود المعتبرة عند أهل الخبرة، فيأتي إلى شيء يجهله خارج عن تخصصه، فمثلاً: لو أن طبيباً متخصص في الأذن جاء لعلاج عين فهذه جناية؛ لأن العين ليست من تخصصه، صحيح أن الأطباء يلمون بالمعلومات العامة في الطب، وكل طبيب لابد أن تكون عنده معلومات عامة ثم يتخصص، لكن نحن نتكلم إذا انتقل من العين إلى الأذن؛ لأن هذا فيه تخصص، فعلاج الأذن لا يمارسه إلا من تخصصه، لكن هناك عند الأطباء ضوابط معينة يحتكم إليها ويرجع إليها، وهي المواد والقوانين التي وضعت بالتجربة والاستقراء ووضعها أهل الخبرة والمعرفة، إذا خرج الطبيب عن تخصصه إلى تخصص ليس له، وتعاطى أو عمل أو زاول شيئاً يجب عليه فيه الرجوع إلى المتخصص وإحالة المريض إليه يضمن.
لكن هناك أحوال طارئة، وهناك أحوال مستثناة لها أحكامها وضوابطها المعروفة في عرف الطب يرجع إليها.
الشاهد: أننا نضمن الطبيب إذا جنى بالجهل، وإذا تجاوز حدود معلوماته أو تكلف شيئاً، أو فعل شيئاً لا ينبغي فعله، أو قصر في حفظ صحة المريض فتلفت صحة المريض.
مثلاً: الآن عندنا أدوية معينة توضع بترتيب معين عند الأطباء، فعالج المريض وقصر في هذا الترتيب، أو لم يخبر المريض بطريقة استعمال الدواء، أو أعطاه الجرعات على مواعيد متباينة، كل هذا جناية، لكنها مبنية على التقصير وليست على التعدي والقصد.
وقوله: [إن عرف حذقهم].
حذق الشيء إتقانه وكونه ماهراً فيه، وقال رحمه الله: (إن عرف حذقهم)؛ لخطورة الأجساد والأرواح، فلا ينبغي لكل طبيب أن يتولى الطب، بل ينبغي أن يكون حاذقاً، وهذه أمانة ومسئولية؛ ولذلك لا يجوز في المستشفيات الأهلية أو نحوها أن تضع طبيباً إلا إذا كان على درجة من الحذق، خاصة إذا كان يتعامل مع كثير من الناس، فينبغي على صاحب المستشفى أو نحوه أن ينصح لله ولعامة المسلمين، فلا يأتي بكل طبيب، والله سائله ومحاسبه إذا وقف بين يديه إن فرط في اختيار الأطباء لعلاج الناس؛ فلا يختار للناس إلا من يرضاه لنفسه ويأمنه على نفسه، فكما يأمنه على نفسه يأمنه على أنفس المسلمين وعلى أرواحهم، ولا يذهب ليأخذ طبيباً لا يعرف منه حذق، ويأتي ويضعه في موضع يعلم أن كثيراً من الناس سوف يراجعونه ويحتاجون إليه، فينبغي في هذه الحالة أن يعرف حذق الطبيب وإتقانه؛ نصيحة للأمة، ودفعاً للضرر المترتب على غير الحاذق.