Q القاعدة التي تقول: (الإعمال أولى من الإهمال) هل لها صور في العبادات؟
صلى الله عليه وسلم الإعمال أولى من الإهمال في المعاملات أكثر منها في العبادات، لكن قد يحتاج الفقيه إلى مثل هذا الذي هو الحكم ومحاولة تصحيح العبادة ما أمكن، أي: بحيث إذا أمكن التدارك، لكن المعروف أن هذه القاعدة أكثر ما تكون في المعاملات، والأشبه في ذلك عقود المعاوضات كما ذكرنا في الإجارات، والعقود التي فيها الغبن أكثر، فهذه لا شك أن الإعمال فيها أولى من الإهمال؛ لأنها مبنية على حقوق المخلوقين، وهي مبنية على المشاحة والمقاصة، وقد اتفق الطرفان والتزما، بخلاف العبادات التي تكون بين المخلوق والخالق، فهي مبنية على المسامحة، فالأمر فيها أوسع من قضية المعاملات، فلذلك يختلف الحال ما بين العبادات والمعاملات من هذا الوجه، والله تعالى أعلم.
وقد يكون تطبيق القاعدة ممكناً في مسائل الخلافات التي تقع بين العلماء رحمهم الله في الأيمان والنذور والعبادات في الصلاة والزكاة والصوم والحج، قد يقول الفقيه: إن تصحيح العبادة أولى من إبطالها، وإتمامها أولى من إلغائها، يمكن هذا ويقع، ويستند على هذا الأصل ويقول: إن قولي بصحة العبادة مع وجود الضمان في مثل هذا، أو يستغفر وتمضي عبادته أولى من قولنا بإبطالها؛ لأن بقاء العبادة وأصول التعبد لله عز وجل والطاعة أفضل من الإلغاء كلية.
مثلاً: إذا قال بعض العلماء: إن من أقيمت عليه الصلاة وهو يصلي الراتبة، أو يصلي تحية المسجد، وبقي من الصلاة شيء يسير كأن يكون -مثلاً- في التشهد، أو يكون في السجدة الثانية، ويمكنه أن يدرك الصلاة، فنقول: بقاء العمل واعتباره على ما هو أولى من إلغائه، فنقول: أتم صلاتك رحمك الله، وأدرك الجماعة.
فهنا الإعمال أولى من الإهمال، نقول له: اتركها ودعها، وسلم من صلاتك وأبطلها! لا، الإعمال أولى من الإهمال.
من أمثلتها في الحج: مسألة ما لو أحرم بالحج قبل دخول أشهر الحج، كرجل جاء في رمضان وقال: لبيك حجاً.
جمهور العلماء على أن الحج مؤقت، والله يقول: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة:197] وأجمعوا على أن بداية هذه الأشهر -كما صح عن ابن مسعود وابن عمر وعبد الله بن عباس رضي الله عنهما، وقد ذكر ذلك ابن جرير الطبري بسند صحيح عنهم- من هلال شهر شوال، والذي هو ليلة العيد، فلو جاء في يوم تسعة وعشرين من رمضان أو ثلاثين من رمضان، أو قبل غروب شمس آخر يوم من رمضان وقال: لبيك حجة.
فالظاهرية يقولون: الحج باطل وفاسد وتفسد عبادته.
والجمهور يصححون نيته بالحج، ويقولون: إنه يبقى بهذه النية ويتم حجه، ويمكن أن يفسخها بعمرة، وبعض العلماء كالشافعية يقولون: إنه إذا أحرم بالحج قبل زمانه، كأن يكون في آخر رمضان، فإنه لا تصح له النية بالحجة؛ لأنه قبل زمانه -كما لو أحرم بصلاة الظهر قبل الزوال- فأبطل نيته بالحج، وأصحح هذه النية وأعُمِلُها؛ لأنه في الأصل دخل المسجد، فأصححها بعمرة، وأقول: يذهب بعمرة ويتحلل منها.
فإذاً أعمل ولم يهمل، فـ الشافعي هنا يعمل النية ويقول: هذا رجل اختار النسك، وعندنا حج أصغر وحج أكبر، وتعذر الأكبر فينصرف إلى الأصغر.
ومن أمثلتها في الصلوات: لو أنه أحرم بالفجر على أن الفجر قد تبين، ثم اتضح أن الفجر ما تبين، فإحرامه بالفجر دخول في العبادة والصلاة، فإذا جئت تهمل وتقول: يمتنع فجراً وقد نوى الفجر، فلا ينتقل إلى غيره، فيهمل وتبطل صلاته ولا تنعقد له، لا فريضة ولا نافلة، تعذر كونها فريضة لأنها قبل الفجر، وتعذر كونها نافلة لأنه لم ينو أنها نافلة، وإنما نواها فريضة وقد قال عليه الصلاة والسلام: (وإنما لكل امرئ ما نوى).
لكن الجمهور يقولون: تنقلب نافلة، والإعمال أولى من الإهمال.
فإذاً يمكن اعتبار مثل هذه المسائل خاصة في مسائل الخلاف، ويمكن تطبيق هذه القاعدة، والله تعالى أعلم.