فأنت -مثلاً- إذا استأجرت داراً من أجل أن تسكن فيها، فإنك إنما طلبت هذه الإجارة من أجل منفعة السكنى، فلو أن هذه الدار التي استأجرتها سقطت وانهدمت فإنه يتعذر ويمتنع عليك أن تستوفي حقك، وحينئذ فإن المنفعة التي هي محل العقد بين الطرفين قد فاتت بفوات العين؛ ولذلك ينفسخ عقد الإجارة، ويكون هذا -كما مثل المصنف رحمه الله- في العقارات، كدار استأجرها من أجل أن يسكنها فانهدمت، فإذا انهدمت الدار فلها حالتان: الحالة الأولى: أن تنهدم قبل استيفاء المنفعة، وحينئذ ينفسخ عقد الإجارة، حيث لا يمكن استيفاء المنفعة، ويجب على المؤجر أن يرد المال للمستأجر.
الحالة الثانية: أن يحصل العذر الطارئ بالانهدام عند بدء استيفاء المستأجر مدة ما من العقد، كأن يستأجر الدار سنة، وتنهدم الدار في الربع الأول أو في النصف الأول من السنة، أو بعد مضي ثلاثة أرباع السنة، ففي هذه الحالة: إذا انهدمت الدار وقد استوفى المستأجر شيئاً منها فإن الإجارة تتبعض بتبعض ذلك الشيء، فنقول للمؤجر: لك عند المستأجر أجرة المدة التي استوفاها، سواء بلغت نصف المدة أو كانت دونها أو زادت على ذلك.
وأما بالنسبة للمؤجر فنقول له -إن كان قد أخذ الأجرة مقدماً-: يجب عليك دفع الزائد على هذه المدة، وينفسخ العقد بينكما.
فلو استأجر الدار بعشرة آلاف لسنة كاملة، وانهدمت بعد نصف سنة من سكناه، فنقول للمستأجر: ادفع خمسة آلاف.
ونقول للمؤجر -إن كان قد أخذ العشرة آلاف-: رد للمستأجر الخمسة الآلاف التي أخذتها، وتملك نصف الأجرة التي دفعت إليك.
وقد مثل المصنف بمثالين: المثال الأول في الدور، والمثال الثاني في الأرضين والمزارع.
فإذا استأجرت الدار أو العمارة أو الشقة من أجل السكنى فلا إشكال، ويكون التمثيل بالانهدام.
وإذا استأجرت أرضه من أجل الزراعة، وكان في الأرض بئر، فغار ماؤها وانقطع، أو استأجرت أرضاً للزراعة فجاء سيل واجتاح هذه الأرض وأغرقها بحيث لا يمكن زراعتها، لأنها إذا غمرت بالماء تعذر زرعها إلا إذا انكشف وانحسر الماء عنها، فحينئذٍ إذا كانت الأرض معدة للزراعة فإنه لا يصح أن تعقد الإجارة عليها من أجل الزراعة إلا إذا كان الماء موجوداً فيها، وقد ذكرنا هذا، وذكرنا الدليل عليه، وقلنا: إن أي عقد للزراعة على أرض ينبغي أن يكون الماء موجوداً، فإذا اتفق الطرفان على أنه يستأجر منه هذه الأرض للزراعة سنة كاملة، ثم في منتصف السنة غار الماء وانقطع، فإنك لن تستطيع أن تحصل المنفعة التي من أجلها عاوضت بالإجارة على هذه الأرض، فمن الظلم أن تبقى على هذا العقد فيأخذ المال منك وأنت لا تأخذ حقك، فينفسخ عقد الإجارة في النصف الثاني من السنة، ويصحح عقد الإجارة في النصف الأول من السنة؛ لأن النصف الأول قد أخذت المنفعة تامة كاملة، والنصف الثاني قد حيل بينك وبين هذه المنفعة، فحق مالك الأرض أن يأخذ منك ما استوفيت، وحقك منه أن تأخذ منه ما لم تستطع استيفاءه، فينفسخ العقد في نصف السنة.
وإذا غار الماء بعد ذهاب ثلثي السنة فالحكم كذلك، تدفع أجرة الثلثين ويرد إليك أجرة الثلث.
إذاً: القاعدة: إذا امتنع استيفاء المنفعة وتعذر ذلك بسبب انهدام الدار أو غرق الأرض وانقطاع الماء عن الأرض فلا يخلو من حالتين: إما أن يكون قبل استيفاء المستأجر ومضي شيء من العقد، فحينئذ ينفسخ العقد من أصله، وترد القيمة كاملة.
وإما أن يقع هذا وقد مضى شيء من المدة، فحينئذٍ نقول: تتبعض الإجارة؛ فيجب على المؤجر أن يرد من القيمة بقدر ما بقي من مدة الإجارة، سواء كان نصفاً أو أكثر على التفصيل الذي ذكرناه.
قوله: (فانقطع ماؤها)؛ لأن الماء هو الذي ينمو به الزرع، لكن لو أنه قال له: أريد أن أستأجر منك هذه الأرض لأزرعها، وإذا لم أزرعها فسأجعلها محلاً للدواب.
فحينئذٍ أعطاه أمرين، فلو فاتت مصلحة الزراعة بانقطاع الماء فإنه يكون من حقه أن يستوفي عن طريق جعلها محلاً لدوابه كما ذكر، ولا يكون هذا التفصيل إلا إذا تمحض العقد من أجل الزراعة، أما إذا لم يكن من أجل الزراعة فلا إشكال، وحينئذٍ ننظر: ففي بعض الأحيان لو أنه استأجر أرضاً من أجل أن تكون مستودعاً له، فجاء السيل وأغرقها، فهذا له نفس حكم انقطاع الماء، وهكذا لو أنه استأجر أرضاً لمصلحة، ثم إن هذه المصلحة تعذرت، فمثلاً: لو أنه استأجرها من أجل أن يضع فيها دوابه، فصارت أرضاً مسفعة تهلك الدواب، فلا يمكن أن ينتفع ويرتفق بها على الوجه المعتبر.
فالقاعدة والضابط ما ذكرناه، والمثال ما ذكره العلماء رحمهم الله من انهدام الدار وغرق الأرض، وهذه أمثلة، لكن المهم لطالب العلم أن يعرف قواعد المسائل، وقاعدة هذه المسألة: أن يتعذر الاستيفاء.
وهذا في القديم.
وفي زماننا: لو أنه استأجر سيارة بعينها على أن يركبها إلى موضع معين، ثم تلفت السيارة، وقد ذكرنا أن بعض العلماء يقول: إذا تعطلت العين وكانت معينة يفوت العقد بفوات المنفعة منها، فلا يمكن أن يقوم غيرها مقامها إذا عين، وقال له: بهذه السيارة.
وبعض العلماء يقول: إذا كان يمكن إيجاد مركوب بنفس الصفة فلا ينفسخ العقد، فنقول له: صحيح إن هذه السيارة قد تعطلت، يمكن أن ينفذ بقية العقد -الذي هو نصف المسافة- فنقول حينئذ: ائت بسيارة مثلها في الأوصاف، وأمض العقد وتمم.
على التفصيل الذي تقدم معنا في مسألة تلف العين المستأجرة.
وقوله: [انفسخت الإجارة في الباقي].
في الحقيقة أنه من دقة المصنف أن قال: (انفسخت الإجارة في الباقي)، وهذا فيه مسألتان: المسألة الأولى: أنه أعطاك حكم ما إذا وقع الخلل والعذر الطارئ أثناء المدة، فتفهم منه أنه إذا وقع قبل التنفيذ والاستيفاء فإنه يجب رد المال كاملاً، وهذا من أجمل ما يكون في المتون الفقهية، وبها يدرك فقه صاحب المتن وحسن اختصاره؛ لأن المتون تقوم على الاختصار، فبدل أن يقول: انفسخ العقد من أصله، ووجب رد القيمة كاملة في حال ما إذا كان العذر قبل التنفيذ وقبل استيفاء شيء من المنفعة، ويقول بعد ذلك: وأما إذا حصل ذلك أثناء المدة انفسخ العقد فيما بقي؛ جاء بالجملة الأخيرة منبهاً على حكم المسألتين، فعندك شيء مصرح به، وهو: أنه يجب رد ما بقي من القيمة، ونفهم من هذا أنه إذا لم ينتفع بشيء وجب رد القيمة كاملة؛ لأنه إذا وجب رد بقية القيمة لعدم التمكن من الاستيفاء فيما بقي من المدة وجب رد القيمة كاملة إذا لم يتمكن من الاستيفاء كلية، فهذا بالنسبة لحكم المسألتين.
والاختصار أن نقول: إن القاعدتين: إذا تعذر الاستيفاء من العين، أو من هذا الشيء الذي تقوم عليه المصلحة التي من أجلها استأجر المستأجر، فلا يخلو من حالتين: إما أن يكون قبل أن يأخذ شيئاً من المنفعة، وإما أن يكون بعد أن أخذ شيئاً من المنفعة أو مضى شيء من المدة، ففي الحالة الأولى: ينفسخ العقد ويجب رد المال كاملاً، وفي الحالة الثانية: يدفع المستأجر على قدر ما استوفى من المنافع وحصله.