وقوله: [وانقلاع ضرس أو برئه ونحوه].
هذه مسألة طبية، وهذا من دقة الكتب الفقهية، وقد نبهنا غير مرة أن الفقهاء يذكرون بعض الأمثلة، وقد يأتي من لا يحسن فهم العلماء رحمهم الله، ولا يقدر ما قدمه هؤلاء الأئمة، وخاصة في الفقه، فإن الفقيه قلّ أن يكتب متناً إلا وقد ابتلي بأحد هذه الأشياء أو بها جميعاً: إما أن يكون ابتلي بالقضاء، أو بالفتوى، أو بتدريس الفقه.
فلن تجد أحداً يكتب متناً فقهياً إلا وقد اشتغل بواحدة من هذه الثلاث أو بها مجتمعة.
ومن أنفس وأدق ما يكون في الفقه: أن تجد فقيهاً اشتغل بالقضاء والفتوى والتعليم؛ لأن من الفقهاء من فتح الله عليه في القضاء ولم يفتح عليه في الفتوى، ومنهم من فتح الله عليه في الفتوى ولم يفتح عليه في القضاء، ومنهم من فتح الله عليه في التدريس ولم يفتح عليه في الفتوى، ومنهم من فتح الله عليه في الفتوى والتدريس والقضاء.
وتجد دواوين العلم ونوابغ الفقهاء وأئمتهم الذين يشار إليهم بالبنان، وتقبل تحقيقاتهم وتحريراتهم، وينظر إليها نظرة الإجلال والإكبار، ويكون لها وزنها وقدرها حينما يكونون قد ابتلوا بهذه الأشياء، فتجد الأئمة الكبار قضاة، والسبب في هذا: أن القضاء يُدخل عليك المسائل الغريبة والأمثلة العجيبة، فتتأصل عندك الأصول، وتنضبط عندك الفروع، وتتضح القواعد والضوابط، وكذلك الفتوى، فإن الناس تأتي بعجائب مسائلهم وغرائب نوازلهم، فلا يحسن التصدر فيها إلا من أنار الله بصيرته، وكان -كما وصف الله- راسخاً في العلم.
ولذلك كان غالب من يتصدر إلى الفتوى في سن مبكرة ينبغ في الفقه في فترة وجيزة؛ لأن الناس تدخل عليه المسائل، وهذه الأمثلة التي نراها في كتب الفقه هي حصيلة تجارب، وإن كان البعض يظن أنها مجرد آراء، وهو لا يعلم أنها حصيلة ذهن العلماء وكدهم وعنائهم قروناً طويلة.
فحينما يقول المصنف: (وانقلاع ضرس) ليس المراد انقلاع الضرس فقط، إنما المسألة دخلت في مسائل الإجارة الطبية، وهذه الكلمة تستطيع أن تفرع عنها مشروعية الإجارة الطبية عموماً، وأن الفقهاء يعتبرون جواز كون الطبيب يأخذ أجرة على عمله ليقلع الضرس، وهذا عمل طبي، وتأخذ منها جواز الإجارة الطبية خاصة، وهي مسألة الجراحة؛ لأن قلع الضرس نوع من أنواع الطب وهو الجراحة، وتأخذ منها جواز قطع العظام الزائدة عن البدن إذا كان فيها ضرر، وجواز قطعها بشرط وجود الحاجة الداعية وهو الألم، وعدم جواز قطعها إذا زال الألم.
وتأخذ منها مسألة إزالة الأعضاء من غير العظام؛ لأن النظير يأخذ حكم نظيره، كما جاز قلع الضرس لوجود الضرر والألم، فيجوز قطع الأصبع الذي فيه ألم إذا تعذر علاج هذا الألم، أو خشي سريان هذا الألم، فالمصنف حينما تكلم عن فوات العين ومثاله العقارات، ثم بعد ذلك موت المرضعة وهو مثال للحيوان، ثم انقلاع الضرس بجزء الحيوان، فأصبح بعدما نبه على الكل نبه على الجزء، وتعلق الإجارة بالجزء، مع أن الرضاع تعلقت الإجارة بالجزء وهو اللبن، وهنا تعلقت الإجارة بالجزء وهو الضرس.
فقوله: (وانقلاع ضرس) يعني: إذا استأجر طبيباً لكي يقلع ضرسه، وكانوا في القديم يحتاجون إلى ذلك.
ولا يجوز للمسلم أن يقلع ضرسه إلا إذا وجد فيه الألم، ووجدت الحاجة الموجبة للقلع، ولا يجوز لأحد أن يقلع سناً لكبرها أو بشاعة منظرها كما في جراحة التجميل، ولذلك لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الواشرة والمستوشرة، (والوشر): فيه برد وتحجيم للأسنان، وهذا يدل على أن تغيير خلقة الله عز وجل لا يجوز.
وفي الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (المغيرات خلق الله) فلا يجوز العبث بهذه الخلقة، مادام أن الله سبحانه وتعالى أوجدها على هذه الصفة، وشهد من فوق سبع سماوات أنه خلقه فأحسن خلقته تبارك الله أحسن الخالقين، فقال: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين:4] فجعله على أحسن صورة وأتم صورة، فلذلك لا يجوز له أن يقلع أو يزيل شيئاً من البدن إلا عند وجود حاجة.
ومن هنا تفرعت مسألة عدم جواز (إزالة الِلوَز) بدون حاجة، وهي التي تسمى بالجراحة الوقائية؛ لأن الفقهاء نصوا على انفساخ عقد الإجارة في قلع الضرس إذا برأ الضرس، فدل على أنه لا يجوز أخذ شيء من البدن إلا عند وجود الحاجة الداعية لذلك، فقال العلماء في قلع الضرس: يشترط وجود الألم وعدم القدرة على احتماله، ولذلك تجد بعض الفقهاء يدقق ويقول: إذا صعب الألم ولم يمكن علاجه، أي لا يوجد علاج ولا دواء له جاز، أما إذا أمكن علاجه فلا، هذا بالنسبة لقلعه.
فلو قال له: اقلع هذا الضرس -وكان الضرس يؤلمه- فقد كانوا في القديم لا يتيسر لهم ما هو موجود الآن من الوسائل التي أنعم الله بها على عباده من تقدم الطب، وفتح الله على عباده من واسع رحمته وبره وفضله سبحانه وتعالى، وهو على كل شيء قدير، وكل ذلك ليشكروه ويحمدوه، ويعتقدوا اعتقاداً جازماً بعظيم فضله ومنته، وأن الأمر كله لله سبحانه وتعالى.
ففتح الله لهم هذه العلوم التي يستطيع الطبيب أن يعرف هل المصلحة بقاء هذا الضرس أو عدم بقائه، فالآن الوضع يختلف، صحيح أنهم في القديم قالوا: إذا برأ انفسخت الإجارة، لكن في زماننا لو كان الضرس فيه آفة في داخله، وهذه الآفة باقية، لكن الألم يذهب ويأتي، وتم العقد، فإنا نقول: ليس من حقه أن يفسخ؛ لأن العذر موجود، وإن كان ينفسخ في القديم؛ لعدم تمكنهم من الاطلاع على خفايا الضرس، وما فيه من أمراض اللثة ونحوها.
لكن في زماننا هذا لما تقدم الطب فإنه إذا وجدت العلة والآفة، وقرر الأطباء أن هذا النوع من الآفات والعلل لا علاج لها إلا الجراحة والاستئصال، واتفق مع المستشفى أو مع الطبيب على أنه يستأصل، ثم قال: ذهب الألم.
فقال: ما أريد.
فإنا نلزمه؛ لأن العلة موجودة، ونقول له: إذا امتنعت وجب عليك أن تدفع أجرة الطبيب.
وعلى هذا سنذكر مسألة تمكين الطبيب من نفسه؛ لأنه إذا مكن الطبيب المريض من نفسه ولم يأخذ منفعته؛ فإنه يلزم المريض بدفع الأجرة كاملة.