قال رحمه الله: [فإن أجره شيئاً ومنعه كل المدة أو بعضها فلا شيء له].
الفاء: للتفريع، (فإن أجره شيئاً ومنعه كل المدة أو بعضها).
في الإجارة طرفان: مؤجر ومستأجر، فأنت إذا قلت: إن عقد الإجارة عقد لازم ينبغي أن تفرع على هذه القاعدة وهذا الأصل؛ أن تفرع اللازم الذي يتعلق بالمؤجر، وأن تفرع اللازم الذي يتعلق بالمستأجر، فابتدأ رحمه الله بالمؤجر.
فقال: (فإن منعه) أي: منع المالك من الانتفاع من العين المؤجرة، ولا يمنع إلا إذا أخلف وعده بإتمام الصفقة، فهو يمتنع من إتمام العقد ويقول: هذه العمارة اتفقت معك أنها بمليون ولا أريد أن أعطيكها، أو لا تستلم العمارة، أو ليس لك عندي شيء، أو لا أعطيك مفاتيحها.
فمنعه أن يستوفي حقه، فإذا منع المؤجر فهو بالإجماع يعتبر ظالماً.
وإذا ثبت عند القاضي أن شخصاً أتم عقد إجارة وتلاعب وأخلف وعده، فإن من حق القاضي أن يعزره، ثم التعزير يتفاوت على حسب الضرر الذي يلحق، فالإجارات التي فيها مصالح عظيمة وأضرار كبيرة يعزر فيها أكثر من الإجارات التافهة واليسيرة.
فإذاً: إن منعه يأثم؛ لأن الله فرض عليه وأوجب عليه بعدما أتم العقد أن يمضي، وأن يفي بما التزم به وما أخذه من العهد على نفسه.
ثم يبقى
Q إذا حكمنا بكونه آثماً فالإثم مسئولية الآخرة، فيبقى النظر عن مسئولية الدنيا من حيث فوات المصلحة، وامتناع صاحب العين من تمكين المستأجر من حقه، فنقول: نحكم بإثمه، ونحكم بقهره على هذا العقد إن كان في بداية المدة.
مثال ذلك: لو أن رجلاً استأجر عمارة بمائة ألف لشهر ذي الحجة، فلما جاء المستأجر يريد أن يستأجر منعه في يوم بداية العقد، أي: جاءه المستأجر وقال له: أعطني المفتاح في ليلة واحد ذي الحجة حتى أستفيد من العمارة التي استأجرتها.
فقال: ليس لك عندي شيء.
فمن ناحية شرعية يفرض عليه، ويلزم بتمكين المستأجر من حقه، ولا يقف القضاء عند قوله: هذا آثم وظالم، بل يفرض عليه ويقول له: أنت تمنع صاحب الحق من حقه؛ لأن منفعة سكنى العمارة خلال الشهر ليست بملك لك، فقد بعتها وأصبحت ملكاً للغير، فأنت بامتناعك من تسليم المفتاح والتمكين من الإجارة منعت حق غيرك، وهذا ليس بملك لك، وقد خرجت عن ملكيتك خلال شهر ذي الحجة.
فإذاً: (الفاء): للتفريع، يتفرع على قولنا باللزوم أننا نلزمه ونقهره بالقوة على دفع العين لكي ينتفع بها المستأجر، سواء كانت أرضاً أو داراً أو سيارة أو أي شيء اتفق عليه، فنلزمه بذلك.
فإذا منعه لم يخل هذا الفعل من أحوال: الحالة الأولى: أن يمنعه قبل ابتداء العقد ويقول له: ليس لك عندي شيء، وأنا راجع عن الإجارة.
فحينئذ إذا رفع إلى القضاء يفرض عليه القضاء التمكين، ويمكن تلافي هذا الخطأ بإلزامه في مدة الإجارة.
فإذا اشتكى إلى القاضي وأحضر القاضي خصمه وألزمه، وابتدأت الإجارة وأخذ حقه كاملاً فلا إشكال؛ لأنه منع من حقه وتوصل إلى حقه بالقضاء.
الحالة الثانية: أن يقول له: لا تأخذ شيئاً، وليس لك عندي شيء، والعقد الذي بيني وبينك لاغ.
فألغى العقد من طرف واحد، فالرجل حاول معه وأراد أن يقنعه فلم يستطع حتى مضى شهر ذي الحجة، فإذا مضى شهر ذي الحجة لم يستحق هذا المانع شيئاً من الأجرة؛ لأن الأجرة مركبة على المنفعة، وقد منع المنفعة.
قد يقول لك قائل: إنه إذا منعه ومضت المدة نلزمه بدفع الأجرة، فكون هذا خان وامتنع فعلى الآخر أن يفي ولا يمتنع: (أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك) وقد التزم أن يعطيه مائة ألف على شهر ذي الحجة.
نقول: التزم المائة ألف لقاء منفعة، والمنفعة المشتراة غير موجودة، كما لو باعه شيئاً ولم يعطه إياه، فإذاً: لما كانت مستحقه لشيء ومبنية على شيء، فإنها تفوت بفواته، هذا إذا منعه المدة كلها.
الحالة الثالثة: أن يمنعه بعض المدة، فقال له: لا أؤجرك، والعقد الذي بيني وبينك لاغ، فمضى من الشهر عشرة أيام وبقي عشرون يوماً سكناً، فيستحق أجرة العشرين يوماً.
ولو منعه عشرين يوماً وتمكن من حقه في العشر الأواخر من الشهر يكون له ثلث الأجرة، ولو منعه خمسة عشر يوماً وتمكن من حقه في الخمسة عشر يوماً، أو سلم له واقتنع بعد نصف الشهر وسلمه المفتاح، نقول: له أجرة نصف الشهر.
وهذا يختلف تبعاً لأحوال الناس: إما أن يمنعه كلية، ولكنه يتمكن من حقه من ابتداء المدة، ويستوفي حقه كاملاً، فلا إشكال، وإما أن يمنعه ولا يتمكن من حقه بالكلية فلا يستحق الأجرة، وإما أن يمنعه عن بعض الأيام دون بعضها، وحينئذٍ يستحق بقدر ما أخذ من الأيام، ويستحق الأجرة بقدر ما استفاد المستأجر من الأيام، إن كان نصف الشهر فنصف الأجرة وهكذا.
لكن هنا مسألة: لو أنه اتفق معه على أن يؤجره شهر ذي الحجة، وكل يوم من شهر ذي الحجة بألف، فاتفق معه على شهر ذي الحجة، ولكن لم يقل: كل يوم بألف، بل قال له: هذه ثلاثون ألفاً لقاء شهر ذي الحجة، وتم العقد على هذا، ثم شاء الله عز وجل أنه منعه من الخمسة عشر يوماً الأولى، ثم مكنه من بقية الشهر، وكان الشهر ناقصاً، فهل يستحق الخمسة عشر ألفاً أو يستحق الأربعة عشر ألفاً؟
صلى الله عليه وسلم يستحق أربعة عشر ألفاً، ولا يستحق الخمسة عشر؛ لأن نقصان الشهر إلى تسع وعشرين يوماً في صورة التمام والكمال، ولا تكون في صورة البعض، ولذلك قال بعض العلماء: إنه في هذه الحالة لا يستحق إلا عن أربعة عشر يوماً؛ لأنها تجزأت بتجزؤ المنفعة المستوفاة، فله حق كل يوم بحسبه، لكن لو أنه أوجب الصفقة عن الشهر كاملاً، ومكنه من الانتفاع ولم يمنعه، وظهر أن الشهر تسعة وعشرون يوماً، فهذا استحقاق مبني على الشهر المسمى، وليس على أجزاء الشهر، وفرق بين الاتفاق على الأجزاء وبين الاتفاق على الكل، وكذلك لو صام شهرين متتابعين وابتدأ من أول الشهر، فإنه قد يصوم كلاًّ من الشهرين تسعة وعشرين يوماً، فتصح كفارة له عما أوجب الله سبحانه وتعالى، لكن لو ابتدأ أثناء الشهر وابتدأ في اليوم الثاني فلابد وأن يصوم ستين يوماً قولاً واحداً عند العلماء.
ففي هذه الحالة يكون المؤجر هو الذي أدخل على نفسه النقص.
وقال بعض العلماء: بل يستحق خمسة عشر ألفاً، ووجه ذلك أن العقد تم على الشهر نفسه، فإن كان قد مكنه من النصف كان نصف المسمى لنفس المدة التي استوفي فيها، ويكون له نصف الشهر؛ لأن العقد باسم الشهر نفسه.
ولكن القول الأول أوجه وأصح؛ لأنه حينما منعه أضر بمصلحة نفسه، وانتقل إلى التجزئة بحسابها، وهذا أصل عند العلماء كما ذكروها في الفسوخات، وذكروها في الأمور الطارئة التي توجب زوال عقد الإجارة.