Q هل يصح الاشتراط في الاعتكاف؟
صلى الله عليه وسلم الاشتراط في الاعتكاف مذهب قياسي مبني على قياس عبادة على عبادة، حيث قالوا: يجوز الاشتراط في الاعتكاف كما يجوز الاشتراط في الحج، والاشتراط في الحج والعمرة أصله حديث ضباعة رضي الله عنها أنها قالت: (إني أريد الحج وأنا شاكية.
فقال لها: أهلي واشترطي أن محلي حيث حبستني.
فإن لك على ربك ما اشترطت) وهذا الأصل فيه ما فيه، ولكن المنبغي والأفضل أن الإنسان يدخل المعتكف وقد هيأ لنفسه أن يعتكف اعتكافاً تاماً كاملاً، فإن جاءه ظرف ضروري خرج لهذا الظرف الضروري وقطع اعتكافه واستأنف بعد ذلك.
أما الاشتراط فمسألة مبنية على القياس، ومن قال بها من أهل العلم فقوله صحيح على حسب قواعد العلماء بأن مذهب القياس على الأصل الصحيح صحيح، ولكن الإشكال: أن الأصل في الاعتكاف اللزوم، والأصل الذي قيس عليه وألصق به هذا الفرع مختلف فيه؛ لأن الاشتراط في الحج جاء على صورة خاصة، وخرج عن القياس، والقاعدة في الأصول: أن ما خرج عن القياس فغيره عليه لا ينقاس.
وتوضيح ذلك: أن الأصل تمام الحج، ولذلك قال تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة:196] فلما جاءت ضباعة رضي الله عنها وقالت: (إني أريد الحج وأنا شاكية) معناه: أن حالتها حالة مرض، ومع ذلك كلفت نفسها مع وجود المرض أن تحج، فأعطاها النبي صلى الله عليه وسلم رخصة لوجود هذا العذر، وقال لها: (أهلي واشترطي) ولذلك قوي مذهب من يقول إنه خارج عن الأصل، وهذا الذي يطمأن إليه كما قدمناه في كتاب المناسك، وذكرنا أقوال العلماء في هذا الحديث، ووجهنا هذا الحديث، وبينا أن الأقوى والأشبه في هذه الرخصة تقييدها بالنص النبوي الوارد؛ لأن القاعدة في التعليل والأقيسة: أن تفقه وتفهم المراد من نفس النص، فالنص إن جاء أصلاً بذاته قست عليه غيره؛ لأن الأصل إتمام الحج، وهنا يقول لها: (محلك حيث حبسك) مع أنه في الحج والعمرة لو أحصر بالعدو فإنه يتحلل بالدم، وهنا يتحلل بدون دم، وهذا يقوي على أنه خارج عن الأصل، ولذلك مذهب طائفة من العلماء ومذهب الجمهور على أنه يتقيد بما ورد، وأنه لا يقاس عليه من لم يكن عليه حاجة من مرض ونحوه.
ولذلك لو جئنا نقيس الاعتكاف، فالاعتكاف من حيث هو عبادة خاصة لها أصل شرعي قصد منه تهذيب النفس وقيامها على محبة الله ومرضاته على وجه تام كامل لتحصيل فضيلة ليلة القدر، فهو إذا جاء يشترط ويخرج في الليل أثناء الاشتراط خالف المقصود؛ لأن المقصود لزوم المساجد للعبادة.
أنا أقول هذا كمسلك أصولي، أي: الكلام على المسألة كمسألة أصولية، لكن لو أنك سألت عالماً وقال بالاشتراط ورأيت قوله؛ فلا بأس أن تعمل به، لكن فيما يظهر من ناحية الأدلة ومن ناحية النظر في النصوص الواردة أن مذهب الاشتراط مذهب قياسي بلا إشكال، قاسوا الاعتكاف على الحج والعمرة، والحج والعمرة نفس الاشتراط فيه خلاف.
ثم إذا قلنا في الحج والعمرة بجواز الاشتراط فقد سلكوا مسلكين: مسلك يقول: أنا أقتصر على النص، فالنص جاء في ضباعة، وهي مريضة، فالمريض الذي عنده مرض ودخل الحج والعمرة وهو مريض يشترط، أما من كان صحيحاً فإنه لا يشترط، بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى إلى ذي الحليفة بعد قضية ضباعة، وأهل مع الصحابة وما قال: إن حبسني حابس فمحلي حيث حبسني، ولم يقل لمن أراد النسك: اشترطوا على أنفسكم: إن حبسني حابس فمحلي حيث حبسني.
ما قاله إلا لامرأة شاكية عندها عذر، فنعمل كل نص كما ورد.
نقول: الأصل إتمام الحج والعمرة، ونفعل كفعل النبي صلى الله عليه وسلم، ولا نشترط إلا عند وجود العذر، والقاعدة: أنه إذا جاء النص على وجه خاص خارج عن القياس والأصل وفيه ما يشعر بتخصيص الحكم به؛ وجب تخصيص الحكم به.
فأنت إذا رأيت الاشتراط تخفيف ومخالف للأصل الملزم بالإتمام، ومسقط للدم الواجب عند الحصر، فذلك كله خلاف نصوص واردة، أما الإتمام الذي ألزمنا به فلنصه تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة:196] وهذا لا يتم؛ لأنه إذا قال: إن حبسني حابس.
فإنه يريد أن يتحلل مباشرة.
ثانياً: أنه لا يتم للمرض، والأصل في المرض: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى} [البقرة:196] له فديته، وله ارتفاقه في المرض، فجاء لأن وجود هذا المرض الذي يحول بينه وبين إتمام الحج أن يشترط ويحج، فخالف الأصول، فإذا جئنا نقيس فينبغي أن نقيس على أصل لذاته يمكن القياس عليه، أما بالنسبة لأصل مختلف في عمومه لذاته، أي: حتى في نفس العبادة التي هو فيها مختلف فيه هل هو عام بحيث يشترط في كل حج وعمرة، ولكل شخص أن يشترط؟ أم هو خاص بمن كان عنده حاجة وضرورة ودخل الحج والعمرة؟ ولو أردت أن تحرر القياس صحيحاً فتقول: ممكن أن يشترط المعتكف إذا كان عنده مرض أو عنده ضرورة، حتى يكون هناك نوع من التوافق في تركيب الفرع على الأصل، أما أن يأتي الرجل السوي ويقول: أشترط أن أخرج للاتصال على والدتي، وأشترط أني بعد المغرب أتصل على أهلي، وأشترط أنني كذا وأنني كذا! هذا كله خلاف الأصل.
قد كان عليه الصلاة والسلام يمر على المريض ولا يعرج عليه كما في حديث عائشة رضي الله عنها، وكان عليه الصلاة والسلام لا يخرج إلا لحاجة.
فنحن نقول: الأصل في الاعتكاف؛ بل الاعتكاف أصله يدل على اللزوم والملازمة للعبادة، فإذا أصبح الشخص يخرج كل حين، فيخرج لقضاء حاجته، ثم يشترط فطوره، ثم يشترط سحوره، وإن تيسر بينهما أكلة بين الأكلتين فلا بأس أن يشترط، فتجد الآن الشخص ينام النهار من بعد الفجر إلى الظهر، ثم بعد الظهر إذا ذهب وتوضأ ربما أنه يجلس بين الظهر والعصر يحدث أخاه عن بعض الأمور التي وقعت له في وضوئه أو زحامه، أو ما رآه أثناء خروجه ودخوله، ثم إذا أذن العصر قرأ ما تيسر له من القرآن، وقبل المغرب ينشغل بتهيئة فطوره، ثم إذا انتهى من الفطور رغب في أن يأكل شيئاً ما إن تيسر، وبعد العشاء يصلي التراويح، فإذا انتهى من التراويح أصبح محتاجاً كل حين إلى الذهاب إلى دورة المياه.
وهذا واقع، حتى عدنا لا نجد للاعتكاف لذة! ثم يذهب لقضاء حاجته، ولربما يكون قد اشترط أن يأكل بين التراويح وبين التهجد شيئاً يعين على التهجد، وكأنه جاء إلى أمر فيه كرب شديد أو خطب عظيم، فلا يوجد استشعار أن الاعتكاف مدرسة يراد بها تهذيب النفوس بالاستغناء بالله عز وجل.
وأبو ذر رضي الله عنه مكث أربعين يوماً على ماء زمزم، فلو أننا أخذنا بالفتوى وقلنا: عنده طعام وطعم وشفاء سقم، فلا حاجة في الاعتكاف لأن يخرج للسحور؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إنه طعام طعم وشفاء سقم).
وإذا خرج بعد التراويح إلى طعامه وأكل ما تيسر ثم صلى التهجد فيحتاج أيضاً أن يذهب لقضاء حاجته، ثم إذا انتهى من التهجد اضطجع؛ لأنه يحس بالإرهاق والتعب، ثم يؤذن الفجر! فأين الاعتكاف؟! وهذه عبادة يراد بها قوة الشكيمة في الطاعة، وأناس خرجوا من الاعتكاف وهم يحبون القرآن وختمه كل ثلاث ليال؛ لأنه في أثناء الاعتكاف وطن نفسه على ذكر الله عز وجل، وأناس يعتكفون فيخرجون من الاعتكاف بالتهذيبات: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له)، والمداومة على (سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم)، والمداومة على أذكار الصباح والمساء، حتى أنه حفظها أثناء العشرة الأيام؛ فأصبحت ديدنه للعام.
فهذه الأوقات معينة يقصد منها تهذيب النفوس، ولا يقصد منها الجلوس مع زيد وعمرو، فقد تجد المعتكف الكامل الاعتكاف الذي يدخل وهو يحس بلذة المناجاة لله، وحلاوة الأنس بالله سبحانه وتعالى، حتى إن أكره ساعة عنده أن يأتي أحد يقطعه عن ذكره لله سبحانه وتعالى، فيقول في نفسه: طيلة العام وأنا بين الناس، أليست هذه ساعات وسويعات أتفرغ فيها لذكر الله عز وجل؟! وخاصة في الليل، ففي الليل لا أعرف أحداً، وأستغني بالله سبحانه وتعالى.
وليس معنى ذلك أنه يهين البدن، لكن ينبغي أن يهيئ الإنسان نفسه لهذه المدرسة وهذه العبادة، بحيث تكون شكيمته في الطاعة قوية، وعلى قدر الجد والاجتهاد في الطاعات والقربات تتبوأ المنزلة، فانظر إلى العلم إلى القيام إلى الصيام إلى الذكر، فأي عبادة جعل الله فيها مراتب كاملة وحصلَّها المكلف على أتم وجوهها فإنه يجد ثمرتها على أتم الوجوه وأكملها؛ فلذلك ينبغي لطالب العلم وعلى العامة أن يعلموا، كيف يكون الإنسان معتكفاً على أتم الوجوه وأكملها، وجماع الخير كله في تقوى الله سبحانه وتعالى والأنس به جل جلاله.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا ممن اتقاه، والتمس رضاه، ووفقه فيما رجاه، ونسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعل ما تعلمناه وعلمناه خالصاً لوجهه الكريم، وموجباً لرضوانه العظيم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.