ومن هنا نقول: من طلب العلم وأعطي راتباً، أو ترتب على كونه يأخذ العلم منزلة أو مرتبة أو شهادة ينال بها شيئاً من الدنيا ففيه ثلاث حالات: الحالة الأولى: أن تكون نيته الآخرة محضة، وحظ الدنيا لا يلتفت إليه بالكلية.
إن أعطي شيئاً وإلا لم يتلفت إليه.
الحالة الثانية: أن يكون قصده الآخرة، ويجعل حظ الدنيا تبعاً لا أساساً، بحيث لو قيل له: لا نعطيك هذه الدرجة ولا هذه الشهادة.
لاستمر واستدام، فحينئذٍ نية الآخرة راجحة ونية الدنيا مرجوحة.
الحالة الثالثة: أن يستويا.
الحالة الرابعة: أن يكون العكس والعياذ بالله، فتكون نيته هذه المنزلة من الدنيا.
فأما إذا كانت نيته الآخرة، وكان قصده من تعلمه أن يتعلم ما فرض الله عليه ويعلم أبناء المسلمين، ويعمل بما علم؛ فهو بخير المنازل؛ لأنه أراد وجه الله عز وجل، وقد نصت نصوص الكتاب والسنة على أن من أراد الله والدار الآخرة فإن الله عز وجل يعطيه أجره ولا يضيع عمله، هذا إذا كان أصله الآخرة.
الحالة الثانية: أن يكون أصله الآخرة وجاءت الدنيا تبعاً، بحيث يقول: أنا فعلاً أريد أن أتعلم، وأعمل بما علمت، وأعلم الناس بعد ذلك، وأحب أن تكون لي شهادة، وأن تكون لي وظيفة منها أنفع الناس، وأكف وجهي عن سؤال الناس، ومنها أسترزق حتى لا أتعرض لذل الدين وفاقته وأعرض أهلي وعيالي للذل.
فإذاً: عنده طلب للدنيا، لكنه أقل من طلب الآخرة، فإذا كانت نية الآخرة هي الأساس ووقعت نية الدنيا تبعاً لم يضر، والدليل على ذلك دليل الكتاب والسنة.
أما دليل الكتاب فإن الله عز وجل قال عن أهل بدر: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ} [الأنفال:7] والله سبحانه وتعالى المطلع على القلوب والضمائر يقول في أهل بدر: (وَتَوَدُّونَ) أي: (تتمنون) من باب قوله عليه الصلاة والسلام: قال: (إن الله وعدني إحدى الحسنيين: إما الجهاد وإما العير) فخرجوا رضوان الله عليهم وهم يتمنون أنها تكون العير.
وليس معنى ذلك أنهم يفضلون الدنيا على الآخرة، إنما كان شيئاً يريدون به كسر شوكة أعدائهم، وارتفاقهم بالدنيا لعزة وغلبة يرجونها لدين الله عز وجل، فقال: {وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ} [الأنفال:7] فكانوا يودون العير، ومع ذلك جعل الله لأهل بدر ما لم يجعله لغيرهم من أهل الغزوات، قال صلى الله عليه وسلم -في الصحيح-: (وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) فهذا كله يدل على أن نية الدنيا إذا وقعت تبعاً لم تضر.
الدليل الثاني من السنة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قتل قتيلاً فله سلبه) وهذا في الجهاد، فجعل للإنسان إذا قتل رجلاً من الأعداء أنه يأخذ سلبه، وهو ما عليه من السلاح والعتاد كما قدمنا في كتاب الجهاد- فهذا السلب منفعة ومصلحة دنيوية، رغب في طاعة وقربة بمصلحة دنيوية، لكنها كانت تبعاً ولم تكن أساساً، وهذا من أدق ما قاله العلماء في هذه المسألة، وهو اختيار الأئمة كالإمام أبي جعفر محمد بن جرير الطبري إمام المفسرين رحمة الله عليه، واختاره أئمة من المتأخرين كشيخ الإسلام ابن تيمية، والإمام الحافظ ابن عبد البر من المتقدمين، وكذلك الإمام الحافظ ابن حجر من المتأخرين.
ولذلك قد يأتي بعض طلاب العلم ويشوش عليك فيقول: كيف تطلب العلم وأنت تريد كذا؟ قل له: أطلب العلم لله وللدار الآخرة، وأجعل نية الدنيا تبعاً ولا أجعلها أساساً ومقصداً.
وهذا هو الفصل في هذه المسألة.
الحالة الثالثة: أن تستوي -والعياذ بالله- النيتان، وتصبح إرادته للدنيا كإرادته للآخرة، وحظ الدنيا عنده كحظ الآخرة لا فضل لأحدهما على الآخر، فهذا هو فاتحة الشر على الإنسان، وفاتحة شر المنازل أن يجعل مع الله نداً في محبته وطلب مرضاته، فيحب الدنيا كما يحب الآخرة، فهذا نيته مؤثرة، كما قال تعالى في الحديث القدسي: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه) فهذا يدل على أنه لا يجوز في الطاعات والقربات أن تشرك نية الدنيا مع الآخرة على سبيل الاستواء.
وأما بالنسبة للحالة الأخيرة، وهي أن تكون نيته الدنيا هي الأساس ونية الآخرة تبعاً، فهذا كما حكى الله عز وجل عن المنافقين وهو شأن أهل النفاق (أنهم لو يعلمون عظماً سميناً أو مرماتين حسنتين لشهد أحدهم العشاء) {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء:142] فهذا في شر المنازل، نسأل الله السلامة والعافية.