أما دليل من قال بالجواز، فقد استدلوا بأدلة ثابتة في السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأدلة من القياس والنظر.
أما دليلهم من السنة الصحيحة فقالوا: عندنا عدة أحاديث وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم، كلها تدل على أنه يجوز أن يأخذ المسلم أجرة على القيام بهذه الطاعات والقرب: الدليل الأول: حديث أبي هريرة رضي الله عنه -وهو ثابت في الصحيحين- في قصة المرأة التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد، فصعد فيها النظر وصوبه عليه الصلاة والسلام، وقال له رجل: يا رسول الله! إن لم تكن لك بها حاجة فزوجنيها.
فقال له: (هل معك شيء تصدقها إياه؟ إلى أن قال: زوجتكها، وفي رواية: أنكحتكها، وفي رواية أخرى: ملكتكها بما معك من القرآن) فالرجل يحفظ عدة سور، فزوجه النبي صلى الله عليه وسلم من هذه المرأة على أن يعلمها هذه السور، حيث قال: (أنكحتكها بما معك من القرآن).
فإذا تأملت هذا الحديث وجدت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل تعليم القرآن عوضاً وصداقاً لنكاح المرأة، فدل ذلك على جواز أن يكون التعليم عوضاً عن شيء دنيوي، وأنه لا بأس أن يأخذ عليه أجراً من الدنيا ما دام أن نيته الأصلية هي ابتغاء الله عز وجل، فقالوا: فلا يضر، لأنه ينوي الطاعة والقربة بتعليمهم القرآن، ولكن كونه يأخذ شيئاً من الدنيا فذلك من تيسير الله عز وجل له حتى يستعين به على المئونة، ويستعين به على طلب العلم، ويستعين به على الخير.
إذاً: حديث أبي هريرة دل على جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن.
طبعاً هم يقولون: أليس المرأة إذا أراد الرجل أن يتزوجها يدفع المال من الذهب والفضة؟ قلنا: بلى، يدفع المال من الذهب والفضة.
قالوا: فإذا كان يدفع المال من الذهب والفضة فإن النبي صلى الله عليه وسلم نزل تعليم القرآن عوضاً عن مهر المرأة، فدل على أنه يجوز أن يكون تعليم القرآن معاوضاً عليه، يعني: لقاء عوض وبدل.
أما الدليل الثاني: فقالوا: حديث أبي سعيد في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنهم نزلوا بحي من أحياء العرب، وفيه رجل به ألم، فقيل لهم: إنكم أتيتم من عند هذا الرجل فهل عندكم من راق؟ فأتي بالرجل، قال: فكنت أقرأ عليه بفاتحة القرآن، فأجمع رقيقي ثم أتفل عليه (ثلاثة أيام) فكأنما نشط من عقال)، أي: فشفاه الله عز وجل بما جعل الله في هذا القرآن من البركة، كما قال تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} [ص:29] فجعل الله عز وجل فيه البركة؛ فشفي سيد القوم، فجعلوا لهم قطيعاً من الغنم، وفي بعض الروايات أن أبا سعيد اشترط وقال: (لا نرقي حتى تجعلوا لنا جعلاً).
فجعلوا لهم قطيعاً من الغنم، فلما جعلوا لهم الجعل قرأ ورقى فشفي سيد القوم.
ومثله قضية اللديغ حينما لدغ وقرءوا عليه بفاتحة الكتاب؛ فشفاه الله عز وجل.
قال أبو سعيد: (فلما رجعنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم سألناه -أي: سألناه عن أخذ العوض عن القرآن والرقية- فقال عليه الصلاة والسلام: إنكم أكلتم برقية حق، وإن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله، كلوا واضربوا لي معكم متاعاً) وفي رواية: (خذوا واضربوا لي معكم بسهم) فأحل لهم العوض، والعوض وقع لقاء الرقية، والرقية نوع من الطاعة والقربة؛ لأنها لا تقع القربة إلا إذا تلا القرآن معتقداً فيه التقرب لله عز وجل، كما لو أذن معتقداً وكما لو علم معتقداً، وهكذا.
فقال أصحاب هذا القول رحمة الله عليهم: إنه يجوز أخذ العوض؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أجاز لهؤلاء الصحابة أخذ الجعل، وعده غير قادح في كون العمل قربة، وقال: (إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله).
كذلك أيضاً لهم دليل ثالث، وهو: النظر والعقل، قالوا: يجوز أخذ الأجرة على تعليم القرآن وعلى الأذان والإمامة والفتوى ونحو ذلك من القربات، كما يجوز أخذ الأجرة على بناء المسجد وكتابة العلم، والكل متفق على أنه لو استأجر شخص ليبني مسجداً فإنه يجوز بالإجماع، وبناء المسجد يقع قربة ويقع عادة من العادات، ولذلك قالوا: ممكن أن ينوي به القربة ويحصل أجر الدنيا وأجر الآخرة، قالوا: فيجوز أن يأخذ العوض عليه من هذا الوجه.