البناء على غالب الظن في بقاء العين أو عدمها

وقوله: (مدة ولو طويلة)، (ولو) إشارة إلى خلاف، يعني: آجر الدار ونحوها مدة ولو طويلة، معنى ذلك: أنه لو أجرت مدة قصيرة فبالإجماع أنه لا بأس بذلك؛ لكن الخلاف إذا كانت المدة طويلة، لكن قال: (يغلب على الظن بقاؤها).

(يغلب على الظن) هذه المسألة تعرف عند العلماء بمسألة غالب الظن، وغالب الظن هو ترجح أحد الاحتمالين، والاحتمال الراجح يقال له: الظن في مصطلح علماء قواعد الفقه، وكذلك مصطلح الأصوليين، ويقال له أيضاً: غالب الظن.

والشريعة الإسلامية تبني الأحكام على غالب الظن، وهناك كلام جيد للإمام الشاطبي في الموافقات، وكذلك للإمام العز بن عبد السلام في كتابه النفيس: قواعد الأحكام في مصالح الأنام، أقر رحمه الله أن الشريعة تبني أحكامها على غالب الظن، وأنها لا ترتب الأحكام على الظن المرجوح، وأن غالب الظن تعبّدنا الله عز وجل به في أعظم الأشياء، فإن المفتي والقاضي يفتي ويقضي ويحكم بأحكامه الشرعية بغالب ظنه، وهذا يدل على أن غالب الظن له اعتبار في الشرع ويحكم فيه ويعمل به، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب) والمجتهد لا يبني اجتهاده إلا على غالب الظن، وعلى هذا نقول: يغلب على الظن بقاء العين، فأصبحت المسألة فيها صور: الصورة الأولى: أن يستيقن بقاء المنفعة.

الصورة الثانية: أن يغلب على الظن بقاء المنفعة.

الصورة الثالثة: أن يستيقن ذهاب المنفعة.

الصورة الرابعة: أن يغلب على الظن ذهاب المنفعة.

الصورة الخامسة: أن يحتمل الأمرين، ولا ترجيح.

فالصورة الأولى: أن يستيقن بقاء المنفعة ويجري المثال، أو يغلب على ظنه بقاء المنفعة ويجري المثال، ففي كلتا الصورتين يجوز، على الأصل الذي قرره المصنف.

فتقول: يجوز لليقين؛ لأن إجارة العشر السنين والعشرين سنة والثلاثين سنة ما دامت المنفعة موجودة، والمستأجر سيأخذ المنفعة وقد دفع المال لقاء المنفعة، فإذاً: لا ظالم ولا مظلوم، وهذا أخذ حقه وهذا أخذ حقه، فإذا ثبت أنها باقية باليقين أو غالب الظن فلا إشكال، والعكس: لو غلب على الظن أو تيقن ذهاب المنفعة فإنه لا يجوز وجهاً واحداً للعلماء.

أما إذا احتمل الأمر، كأن تكون داراً متهدمة نوعاً ما، فيحتمل أن تبقى ويحتمل ألا تبقى، والحكم أنه إذا لم يغلب على الظن فإنه لا تصح الإجارة؛ لأن هناك قاعدة تقول: (مفاهيم المتون معتبرة)، فحينما قال لك الشرع: يغلب على الظن بقاؤها، فهذا كالقيد الذي نعتبره شرطاً نفهم منه أنه إذا لم يغلب على الظن بقاؤه فإنه لا يجوز.

وفهمنا الخمس صور من كلام المصنف، حينما قال: (مدة ولو طويلة يغلب على الظن بقاؤها) فلاحظ قوله: (يغلب على الظن)، وهذا يدل على دقة العلماء رحمهم الله في اختصار المتون، فكان المفروض أن يأتي بالخمس صور، لكنه لما قال: (بمدة يغلب على الظن بقاؤها) فهمت الأحكام الخمسة، إذ تفهم أنه من باب أولى إذا استيقن وأصبح الأمر مائة في المائة في بقائها، فهنا صورتان بالمنطوق.

وبالمفهوم لما قال: (يغلب) تأخذ أنه إذا غلب على الظن عدم البقاء فإنه لا يجوز، وهذه هي الصورة الثالثة، فإذا كنت تفهم أنه إذا غلب الظن بعدم البقاء فإنه لا يجوز، فمن باب أولى إذا استيقن، وهذه هي الصورة الرابعة.

وبقيت الصورة الخامسة وهي التردد وأن يكون احتمال البقاء واحتمال عدمه في مرتبة واحدة، فتقول: لم يثبت الحكم، ففهم من قوله: (يغلب على الظن) أنه إذا لم يغلب على الظن فلا يجوز، سواء تردد أو كان هنالك ترجح لاحتمال عدم البقاء، وهذه خمس صور نأخذها من جملة: (يغلب على الظن بقاؤها).

وهذا أمر مهم ينبغي أن ينبه عليه؛ لأن قراءة المتون لمعرفة منهج العلماء لكي تستطيع أن تفهم الأحكام؛ فربما يقول قائل: المصنف نص على غالب الظن ولم ينص على غيره، ولذلك تجد بعض المتأخرين يعملون في التعليق على تحقيق الكتب القديمة على تعقب المصنف، يقول: وهذا قصور من المصنف؛ لأنه تكلم على غالب الظن، والقسمة العقلية تقتضي خمس صور.

وهذه الكتب ألفت وما كان يقرؤها إلا جهابذة العلماء، فلو نبه على الخمس لعُد تطويلاً، وتوضيح الواضح يعتبر إشكالاً، ولذلك لا يعتنون بهذه الأشياء، فالعلماء لهم منهج دقيق في اختصار المتون، فهم ينبهون على صورة بحيث يفهم منها ما هو أولى منها أو ما هو في حكمها، ويفهم حكم العكس بالعكس.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015