بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: قال المصنف رحمه الله تعالى: [والغسل الكامل أن ينوي ثم يسمي].
كان الحديث عن موجبات غسل الجنابة، أي: الأسباب التي توجب الغسل من الجنابة، وهنا -إن شاء الله- سيكون الحديث عن صفة غسل الجنابة، وهذا الترتيب يعتبر مراعياً للأفكار -أي: ترتيب الأفكار- فبعد أن تنتهي من الأسباب تصف الشيء، وبعد أن تبين للمكلف ما هي الأمور التي تتسبب في غُسل الجنابة يأتيك
Q كيف أغتسل من الجنابة؟ فأولاً: نبين موجبات الغسل وأسبابه، ثم نتبع بعد ذلك بالحديث عن صفة الغسل.
فقال رحمه الله: [والغسل الكامل] الواو: للاستئناف، والغسل له حالتان عند العلماء: الحالة الأولى: يسميها العلماء حالة الإجزاء.
والحالة الثانية: يسمونها حالة الكمال.
والفرق بين الإجزاء والكمال: أن الإجزاء يتحقق به المأمور شرعاً، بمعنى: أنك إذا أوقعت الغسل على صفة الإجزاء عليه فقد أديت ما أوجب الله عليك، وأما بالنسبة للكمال فإنه يراعى فيه ما فوق الواجب واللازم، بمعنى: أن يصف لك الغسل وصفاً على أتم وجوهه وأكملها، وبناءً على ذلك: انقسم الغسل إلى غسل إجزاء وغسل كمال، فلو أخل المكلف بغسل الإجزاء فقد يحكم بعدم صحة غسله، لكن لو أخل بغسل الكمال في غير الإجزاء تقول: فاته الأفضل والأكمل، وغسله صحيح.
يقول رحمة الله: (والغسل الكامل) أي: الغسل الذي هو على أعلى مراتب الغسل هو أن ينوي ثم يسمي، ومن عادة العلماء رحمة الله عليهم أن يذكروا حالة الإجزاء وحالة الكمال، والمصنف هنا ابتدأ بصفة الكمال، وغيره ابتدأ بصفة الإجزاء، فطريقة المصنف رحمه الله حينما ابتدأ بغسل الكمال تدرج فيها من الأعلى إلى الأدنى، وطريقة غيره ممن ابتدأ بالأجزاء ثم أتبعه بالكمال تدرج من الأدنى إلى الأعلى، وكلتا الطريقتين لها وجه.
أما طريقة المصنف بأن يبتدئ بالكمال ثم يبين لك غسل الإجزاء فهي أنسب؛ لأنه إذا فعل ذلك ترك التكرار، فإنك إذا ذكرت الغسل الكامل ثم قلت: والواجب منه كذا وكذا، أفضل مما لو قلت: الغسل الواجب كذا، ثم أتبعت صفة الكمال وذكرت ضمنها الواجبات، فطريقة المصنف في ذكر الكمال ثم إتباعه بالإجزاء أولى من طريقة غيره ممن ابتدأ بالإجزاء ثم أتبعه الكمال.
هذه الصفة التي يسميها العلماء: صفة الكمال، ثبتت بها أحاديث صحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم، منها: حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها، وحديث ميمونة رضي الله عنها وأرضاها، وكلا الحديثين ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين، فقد وصفت كل منهما غسل النبي صلى الله عليه وسلم، فمنهما من فصلت في شيء وأجملت في شيء، ومنهما من فصلت في شيء آخر وأجملت في غيره، وقد راعى العلماء رحمهم الله في صفة الكمال ما تضمنه حديث عائشة وحديث أم المؤمنين ميمونة رضي الله عن الجميع.
يقول رحمه الله: (أن ينوي) أي: ينوي الغسل، والنية: القصد، والمراد بها كما يقول العلماء: العزم على فعل الشيء تقرباً إلى الله تعالى، كما ذكر هذا التعريف البعلي في المطلع، وكذلك غيره، ومعنى (العزم على فعل الشيء تقرباً إلى الله تعالى): أن تعزم على عبادة أو معاملة، والهدف من ذلك والقصد من ذلك وجه الله عز وجل، سواءً كانت عبادة أو معاملة، فالعبادة: كأن تصلي فتفعل القيام والركوع والسجود وغيره من أفعال الصلاة وفي نيتك وجه الله جل وعلا، أما المعاملة: كأن تعطي ابنك المال قاصداً بذلك مرضاة الله عز وجل، فإنها عادة ولكنها صارت عبادة بالقصد.
بعض العلماء يقول: العزم على فعل الشيء، وبعضهم يقول: قصد فعل الشيء قربة لله، والتعبير بالقصد أنسب من التعبير بالعزم؛ لأن من العلماء من فرق بين القصد والعزم فقال: القصد: ما يكون عند توجه النية، والعزم: يكون متراخياً عن ذلك التوجه، ولذلك قالوا: التعبير بالقصد أدق، خاصة وأن الحقيقة اللغوية للنية عرفوها بالقصد، فيكون فيه اشتراك بين التعريف اللغوي والشرعي من هذا الوجه.