إذا ثبت جواز إجارة الأرضين للزراعة، فالأرضين تنقسم إلى أقسام، فمثلاً: إذا استأجر الأرض للزراعة فإما أن تكون الأرض فيها ماء مستقر دائم، وإما ألا تكون كذلك، فإن كان في الأرض ماء مستقر دائم، كأن يكون بها عين ماء، أو يكون فيها بئر والماء فيه غزير، أو تكون بجوار نهر، فالماء مضمون بإذن الله عز وجل، أو يستأجرها شهراً أو شهرين، والمدة التي يريد أن يستأجرها الغالب فيها وجود الماء، فهذه بإجماع العلماء الذين يقولون بجواز إجارة الأرضين تجوز إجارتها؛ لأن المنفعة وهي الزراعة ممكنة؛ لأن الماء موجود، والأرض صالحة للزرع.
فإذا اختل أحد الشرطين: كأن يكون الماء غير موجود، أو كانت الأرض غير صالحة للزراعة كالأرض السبخة فلا يجوز؛ لأنه إذا استأجرها بقصد الزراعة والأرض سبخة فإنه لا يجوز، وقد غرر به، ولا يستطيع أن يتوصل للذي من أجله استأجر الأرض.
كذلك لو كانت الأرض زراعية ولكن لا ماء فيها فإنه لا يتمكن، فإذا تحقق الأمران: بأن كانت الأرض زراعية، وكان الماء موجوداً ومستقراً وثابتاً في الأرض؛ فإنه تجوز إجارتها وجهاً واحداً عند العلماء على التفصيل الذي ذكرناه.
لكن إذا لم يكن فيها ماء، فتارة تكون إجارتها على أن يجلب الماء إليها، كأن يكون مثل ما هو موجود في زماننا يتمكن من نقله بوسائل النقل إلى هذه المزرعة، أو قطعة صغيرة يريد أن يجعلها محمية، فيجعل فيها نوعاً من المزروعات، فحينئذ يجوز؛ لأن المنفعة التي يريدها لها وسيلة يتوصل بها.
وهكذا لو كان جاراً للأرض وعنده أرض فيها ماء، وهذه بجوار أرضه، ويريد أن ينقل الماء الذي في أرضه إلى هذه الأرض فإن ذلك يجوز، هذا إذا لم يكن في الأرض ماء.
الصورة الثانية: أن يجلب الماء إليها إذا لم يكن فيها ماء، أو تكون هذه الأرض في موضع والغالب نزول الماء عليه، مثل: الرياض التي تكون في الجبال، ويأتي في موسم المطر، فيقول له: أستأجر منك هذه الأرض.
فبعض العلماء يقول: إذا كان الغالب نزوله، أو كانت الأرض معروفة بكثرة الأمطار فهذا يجوز، لكن إذا كانت الأرض قحطاً، والغالب عدم النزول أو مشكوك في نزوله فهذا من الغرر؛ لأنه يحتمل أن ينزل الماء ويحتمل ألا ينزل، فإن نزل الماء زرع، فحقق المنفعة التي من أجلها استأجر، وإن لم ينزل الماء لم يستطع زراعتها، فإذاً: يكون قد أكل مال أخيه بالباطل.
قالوا: إذا كان يغلب على الظن وجود الماء، مثل: أن يكون استأجرها في مواسم الغالب على الظن النزول، أو كان في نصف الموسم ونزلت أمطار، والأرض ممكن زراعتها قالوا: يجوز في هذا.
أي: إذا استأجر منه الأرض في موضع الغالب نزول المطر فيه، أو يغلب على ظنه أنها تمطر، أو كان هناك في الأرض ممكن أن يكون لها ارتواء مثل ما ذكروا، أن تكون الأرض فيها واحة أو فيها غدير ماء مثلما يقع في بعض الرياض، حيث تكون قريبة من غدران المياه، فيضعون عليها (المواطير) أو نحوها لسحب المياه، قالوا: فهذا يجوز، وقد ذكروا هذا حينما يذكرون الأرض العامرة والغامرة.
إذاً: الخلاصة: أنه إذا كانت الأرض فيها ماء وهي أرض زراعية جاز إجارتها للزراعة وجهاً واحداً على التفصيل الذي ذكرناه، وأما إذا كانت الأرض لا ماء فيها، فإننا ننظر إذا كان يمكن جلب الماء إليها، سواء عن طريق مزرعته أو عن طريق وسائل النقل، أو حفر لها خليجاً يصل الماء عن طريقه إليها، فإنه تجوز إجارتها؛ لأن الغالب حصول المنفعة، أما إذا كان على الظن والاحتمال فلا يجوز.
وهناك نوع من الأرضين ذكره العلماء، ونبه عليه الأئمة كالإمام النووي رحمه الله والماوردي وغيرهم رحمة الله عليهم، وهو أن تكون الأرض مغمورة بالماء مثلما يقع في بعض المواسم التي يكون فيها فيضانات، ويفيض الماء فيها كثيراً حتى إلى المزارع ويغطيها، فجاء رجل عنده أرض زراعية وليس فيها زرع، لكنها صالحة للزراعة، وأراد أن يستأجرها شخص منه وهي مغمورة بالماء، والأرض إذا غمرت بالماء والسيل فإنه يمكن زراعتها بمجرد أن ينزل منسوب الماء إلى حد معين، فإنها تزرع وممكن أن تنبت؛ فهل إذا أجرها في حال غمرها بالماء يكون من الغرر؟ في المسألة تفصيل: إن كان انحسار الماء غالباً، كأن جرت العادة أن هذه الأرضين في موسم الأمطار تغرق، ثم إذا جاء الربيع وانحسرت المياه وقلت فإنها تنكشف، فإذا كانت مما يغلب على الظن انحسار الماء عنها صحت الإجارة، وحينئذ يؤجرها، وتكون إجارتها على الموسم الذي ينحسر فيه الماء ليتمكن من زراعتها، فإن أجرها وشملت إجارته وقت الماء لم يصح؛ لأن وقت الماء لا يمكنه زراعتها، ولذلك تكون إجارتها وقت الماء من أكل المال بالباطل.
مثال ذلك: لو جاء إلى أرض مغمورة بالماء، ويستغرق نزع الماء عنها وانحساره شهراً، وقال له: أجرني هذه الأرض للزراعة شهرين.
فاتفق معه على أنه يكون الشهر الأول الذي ينحسر فيه الماء من ضمن العقد، لم يصح ذلك؛ لأنه يأخذ منه أجرة شهر كامل دون أن يتمكن المستأجر من حصول المنفعة، فالمنفعة متعذرة؛ لأنه لا يمكن زراعة أرض مغمورة بالماء.
وعلى هذا يفصل في إجارة الأرضين بهذا التفصيل، فيفرق بين أن تكون صالحة للزراعة أو غير صالحة، ثم تكون إجارتها بغلبة الظن بسقيها الماء أو لا يكون فيها ماء على التفصيل الذي ذكرناه.
فمثل المصنف رحمه الله للمنفعة: بأن تكون الأرض لا ماء فيها أو غير صالحة للزرع إذا قصد منها الزراعة، أما لو قصد من الأرض غير الزراعة، وكان ذلك المقصود ممكناً في الأرض صحت إجارتها.