Q نرجو بيان الأحكام المتعلقة بالإجارة على الفحص، كالفحص على الآلات والفحوص الطبية؟
صلى الله عليه وسلم هذا سؤال مهم جداً وفيه فائدة، ولذلك من أفضل ما يكون في دراسة الفقه: أن يكون هناك فهم للمسائل الموجودة حتى يكون ذلك أمكن للتصور.
فمسألة الإجارة على الفحص: الشخص إذا أراد أن يفحص متاعاً أو شيئاً يملكه أو يفحص نفسه -كما في التداوي- فإن لهذا الفحص أحكاماً ينبغي أن يعرفها المسلم حتى يعرف ما الذي له وما الذي عليه.
فنبدأ -مثلاً- بفحص الأشخاص في الطب: فالإجارة الطبية تنقسم في الأصل إلى قسمين: القسم الأول: الإجارة على الفحوصات.
والقسم الثاني: الإجارة على التداوي.
فالطبيب إذا استأجره الإنسان أو المستشفى إما أن يستأجره من أجل أن يفحص ليشخص مرضاً أو داءً، وإما أن يستأجره لعلاج داء، فأما السؤال فإنه ينصب على الاستئجار للفحوصات.
الفحوصات في الأصل تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: ما يسمى بالفحوصات المبدئية، وهذا النوع من الفحوصات غالباً ما يقوم الطبيب بنفسه، مثل قرع بطن المريض، ومثل: التصنت إلى أماكن معينة مثل: (جس النبض) ونحو ذلك، وهذا يسمونه الفحص السريري أو الفحص المبدئي، وهو جملة من الإجراءات والتي يقوم بها الطبيب للمعرفة المبدئية لأعراض الأمراض، فإن الله من حكمته أن جعل لكل مرض ولكل داء علامات وأمارات يعرف بها.
فهذا الفحص المبدئي له حكم، وهناك الفحص التكميلي، والفحص التكميلي أعمق في الأحكام؛ لأنه يستعين فيه الأطباء -بعد الله عز وجل- بوسائل أدق من وسائل الرؤية والمشاهدة واللمس باليد، ونحو ذلك من الفحوصات المبدئية، فتكون المسائل أحوج للتفصيل في النوع الثاني أكثر من الأول.
ففي النوع الأول -الفحص المبدئي- إذا أراد أن يستأجر من أجل الكشف عليه، فإذا قال: من أجل أن يكشف عليه.
هذا شيء، ومن أجل تشخيص المرض شيء آخر، وهناك أمران: إما أن يفحص من أجل أن يعرف وضع البدن، وإما أن يعرف ما الذي يتسبب في هذا الألم.
فمثلاً: الفحص الذي يقصد به معرفة وضع البدن -مثل: الفحص الوقائي- هذا لا يقصد به كشف الداء، بل يفحص الدم ويفحص الخارج من الإنسان من بول أو براز أو غير ذلك، ولا يقصد منه معرفة مرض معين أو شكوى معينة، إنما المراد منه معرفة وضع البدن عموماً، وهذا نوع من الفحص لابد من معرفته؛ لأن المنفعة المقصودة: أن يظهر للمريض طبيعة بدنه، والحد الذي هو فيه البدن، سواء كان على حد الخطر أو على حد السلامة.
وهذا النوع من الفحوص يقوم الطبيب فيه بالإجراء المتبع عند أهل الخبرة على حسب طلب المريض، فإن طلب منه فحص الدم من حيث وضعه، فإنه يفحصه على وضع متعارف عليه عند الأطباء، فإذا فحصه على وضعه المتعارف عليه وأخرج نتائج الأجهزة والآلات -من تصوير بالأشعة والتحاليل- دون أن يتصرف في ذلك، فعند هذا القدر تنتهي مهمة الطبيب وليس له علاقة بالعلاج أو التداوي، إنما فقط أن يكشف له طبيعة بدنه.
إذاً: المنفعة في هذا النوع من الفحوصات هي: الكشف عن طبيعة البدن.
النوع الثاني من الفحص: أن تقول للطبيب: أريد أن أعرف سبب هذا الألم.
أو تقول: ما الذي يحدث -مثلاً- في الأذن أو لماذا أجد ألماً في بصري؟ ففي هذه الحالة يتحمل الطبيب مسئولية معرفة عين الداء، والفرق بين الحالتين: أنه في الحالة الثانية لو استأجرت طبيباً لمعرفة مرض في بدن وشخصه أنه مرض وتبين أنه غيره؛ لم يستحق الأجرة؛ لأنه في الأصل يستحق إذا كشف، وتكون له جعالة إذا قلت له: من أجل أن تكشف المرض.
لكن من أجل أن يفحص لك -مثلما ذكرنا- فيستحق الأجرة بالعمل، فهناك فرق بين الأمرين، فإذا استأجر الطبيب من أجل معرفة دائه ومرضه فلا يستحق إلا بالتشخيص الواضح البين.
وتتضح الصورة أكثر في الأشعة: فلو أراد أن يعرف ألماً موجوداً في عظامه هل هو كسر أم لا؟ فجاء إلى مصور الأشعة وقال له: صور لي يدي.
فإذا قال له: صور.
فالمصور يستحق الأجرة على التصوير فقط، وليس له علاقة حتى لو خرجت سليمة.
لكن لو أن الطبيب قال له: يدك تحتاج إلى تصوير.
مع أن المرض ظاهر ولا يحتاج إلى تصوير، وتبين أنه خدش عارض أو التهاب عارض في الجلد جرى عرف الأطباء أنه لا يصور فأمره بالتصوير، فإنه لا يستحق أجرة؛ لأن كل الإجراءات التي تتم بين الطرفين مقرونة بالعرف الطبي، فأي تصرف يطلبه المريض من طبيبه ينبغي أن تكون الأجرة مقيدة بذلك العقد والاتفاق بين الطرفين.
ومن هنا حصلت الشبهة في مسألة التداوي بقراءة القرآن وأخذ الأجرة والمال على القراءة؛ فإن الصحابة رضوان الله عليهم قرءوا على المريض الممسوس والمجنون فأعطاهم الأجرة بعد شفائه، فمن أراد أن يقرأ وأعطي قبل الشفاء أو قال: أنا آخذ إذا شفي خمسة آلاف.
فلا بأس إذا اشترط الجعل، لكن أن يفتح عيادة كالطبيب، وكل من دخل وشخَّص حالته أخذ منه الأجرة، فهذا لا يجوز؛ لأن مسائل الأرواح لا يستطيع أحد أن يكشفها.
فإذاً: عندما يقول له: كلما تدخل عندي تدفع خمسين من أجل أن نقرأ ونعرف هل هو مس أو هل هو سحر أو كذا لا يصح؛ لأن الأمور الروحية لا يمكن بها إدراك أصل الداء، فقد يكون هذا الشيء لعارض من غضب أو نحوه من أمور لا علاقة لها بالمس والسحر، بخلاف الأمراض العضوية المشخصة التي يمكن الوصول فيها إلى حقيقة المرض، فاختلف الأمر بين الصحابة رضوان الله عليهم، وهم أخذوا الأجرة لكن بالجعل، أي: أنهم قالوا: اجعلوا لنا جعلاً، والجعل غير الإجارة، لكن إذا قال: لا تدخل عندي حتى تدفع خمسين ريالاً، وكل جلسة أجلسها وأقرأ القرآن على المريض آخذ خمسين.
لم يصح؛ لأنه نقله من الجعل إلى الإجارة، والإجارة على مثل هذا لا تصح، وقد يقول: إنه معيون وهو ليس بمعيون، وقد يقول: إنه مسحور وهو ليس بمسحور.
ونرجع إلى مسألة الطبيب إذا قيل له: شخص لي المرض، أو إنني أشتكي -مثلاً- من ألم في موضع كذا، فأريد أن أعرف حقيقة هذه الشكوى، فإذا التزم الطبيب بكشف وتشخيص المرض فإنه يستحق أجرة التشخيص، وإذا التزم بالعلاج والمداواة فإنه يستحق أجرة المداواة، فتصبح عنده مرحلتان: إن اتفق معه على التشخيص فهذا شيء، وإن اتفق معه على التداوي، فهذا شيء آخر، وعلى هذا: فكشف حقيقة الأمراض وفحص الأمراض في الطب يستحق الطبيب الأجرة فيه إذا شخص على وفق الأصول المتبعة عند أهل الخبرة والأطباء.
أما الآلات: مثل السيارات، إذا جاء وأحضرها عند مهندس مثلاً، فإذا قال للمهندس -مثلاً-: اكشف لي عيب هذه السيارة.
فهذا شيء، وإذا قال له: أصلح لي السيارة.
فهذا شيء آخر.
إذا قال له: اكشف لي عيب السيارة، صارت إجارة على فحص السيارة، فيفحص جميع ما فيها، وإذا حدد وقال: أريدك أن تكشف على شيء معين في السيارة، فهنا يتم العقد على شيء معين، ويكون مورد العقد على شيء معين، وفي هذه الحالة إذا قام المهندس بالكشف عندها وحدد ما بها، وكان يطمع أن تصلحها عنده فقلت: لا أريد أن أصلحها عندك.
فيجب عليك دفع أجرة مثله، أما أن يأتي بسيارته ويكلفه الكشف عليها ويخدعه كأنه يريد أن يصلحها عنده ثم ينطلق ويصلحها عند غيره، فللعامل وللمهندس حق خبرته ونظره وتعبه، ولا يجوز أن يأمره بذلك إلا وقد حدد له أجرته، وهذا بالنسبة لكشف الآلة.
لو أن الساعة تعطلت فجاءه وقال له: أصلح لي الساعة.
فيكون المهندس أو الخبير بإصلاحها مطالباً بأمرين: الأمر الأول: معرفة منشأ الفساد وحقيقته، وثانياً: معرفة كيفية إصلاحها.
فإن قال له: بها عيب كذا.
قال له: حسناً، هذا العيب بكم تصلحه؟ فقال: هذا العيب له قطعة، وهذه القطعة إن اشتريتها أنت -فلو فرضنا أنها عقارب الساعة- أصلحها بخمسين ريالاً، ولو قال له: عقارب الساعة موجودة عندي، والثلاثة العقارب بثلاثمائة ريال، وتركيبها بخمسين ريالاً، فأصبح المجموع ثلاثمائة وخمسين ريالاً.
فهذا لا شيء فيه، وخاصة على القول باجتماع الإجارة والبيع فيما يخف، وهذا مما يخف، ففي الفحص وإصلاح الآلات يكون الأمر موقوفاً على معرفة الفساد وما يستلزمه إصلاح الفساد، فيحدد أجرة المعرفة وأجرة الإصلاح.
أما بالنسبة للمسائل المتعلقة بجزئيات الفحص على الأبدان -الذي هو الفحص الطبي- فهذه تحتاج إلى تفصيل، فمثلاً: التصوير بالأشعة لابد أن تحدد نوعية الأشعة: هل هي أشعة مقطعية أم سينية أم أشعة بالليزر؟ فيحدد ما الذي يريد أن يتصور به، ثم يحدد العضو الذي يريد أن يصوره، وتكون مهمة المصور أن يصور على وفق الأصول الطبية، بشرط أن تظهر الأفلام واضحة، فلو أنه قصر ولم تكن واضحة فمن حقه أن يطالبه بإعادة التصوير مرة ثانية.
وأيضاً: يطالب المصور -إذا اتفق معه على التصوير وتشخيصه- بكتابة تقرير التصوير؛ لأن التقرير يعتبر تابعاً للإجارة، وقد جرى العرف على أن المصور يكتب تقريره، فإذاً: لابد وأن يكتب تقريره، فلو كان التصوير بالأشعة قيمته خمسين ريالاً، والتقرير كتابته بعشرين ريالاً، فلو أنه صور له ولم يكتب استحق الخمسين، وهذا شيء طيب وحسن في المستشفيات، فنجد عندهم نوعاً من التفصيل، فتجده مثلاً يقول لك: الأشعة المقطعية قيمتها كذا، والأشعة على اليد قيمتها كذا، والأشعة على الرجل قيمتها كذا.
والمقصود: أنك تدخل إلى العقد وأنت على بينة، وهذا الذي تريده الشريعة للمتعاقدين؛ أن كل متعاقد يعرف ما الذي له وما الذي عليه.
وإذا قرأ طالب العلم هذا المسائل وطبقها على ما يعيشه وعلى ما يبتلى الناس في أعرافهم؛ وجد سماحة الشريعة، وخاصة عند التطبيق ستظهر أمور جلية، وكم من مسائل قرأناها في المتون ولما طبقناها في واقع الناس وفي حياتهم وجدنا لها فوائد وحكماً وأسراراً؛ لأن الشريعة تنزيل من الحكيم الحميد، وربما العلماء يقولون حكمةً، ولكن كم من حكم تخفى! وكم من أسرار وفوائد لا تظهر إلا عند التطبيق والممارسة؛ ولذلك كانوا يقولون: من أفضل الشروح في الفقه شرح الفقيه القاضي أو المفتي؛ لأنه من خلال فتاوى الناس إذا جاء ليشرح فإنه يشرح بعمق، ويشرح بفهم، وعنده إلمام بالأصول والمستثنيات.
والفقيه القاضي؛ يعرف خصومات الناس وحقوقهم، فيعرف قيمة شروط الشريعة التي تحدد حقوق المتعاقدين.
فالمقصود من هذا: أن الإجارة إذا كانت على الفحص فلابد فيها من تحديد المنفعة