وقوله: (إلا في الظئر) هذا استثناء، والاستثناء: إخراج لبعض ما يتناوله اللفظ.
(الظئر): المرضعة، والرضاعة تكون من الآدمي، يعني: يستأجر امرأة من أجل أن ترضع طفله، فقال طائفة من العلماء رحمة الله عليهم: إن هذا النوع من العقود -وهو: استئجار المرأة للرضاع- يعتبر مستثنى من الأصل، فهو يسمى إجارة، لكنه في الحقيقة بيع، واستثنيناها لورود القرآن بذلك: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق:6]، هذا نص من كتاب الله على اعتبار الإجارة على الرضاع، وإن كان بعض العلماء يقول: بل فيه معاوضة، وتكون أجورهن أشبه بالعوض، وليس المراد به الإجارة، لكن جماهير العلماء على أنها إجارة.
وعندنا مسألتان ينبغي التنبيه عليهما في مسألة استئجار المرأة للرضاع، فقد يحتاج الرجل لإرضاع صغيره، إما لموت أمه، أو وجود آفة أو ضرر، أو تعذر إرضاع أم الطفل للطفل، فيحتاج أن يسترضع لولده، وهذا الاسترضاع يكون على وجهين: الوجه الأول: أن يكون على عقد إجارة بالمدة.
والوجه الثاني: أن يكون على عقد البيع.
فاللبن الذي تخرجه المرضعة إذا قال لها: أرضعي طفلي سنة وأعطيك كذا وكذا، أو أرضعيه الشهر بألف.
وتمت الموافقة، فهذه إجارة وحكمها حكم الإجارة.
النوع الثاني: أن تحلب المرأة حليبها، وتضعه في وعاء أو في كأس ويحتاجه لصبيه، أو يقول لها: أرضعي صبيي.
فقالت: لا أرضعه، لكني أحلب الحليب في الكأس وأبيع الحليب.
فعندنا عقد بيع وعندنا عقد إجارة، ولابد من التفريق بين العقدين، فأما ما كان من الإجارة لمدة الشهر الشهرين السنة السنتين، فهذا لا إشكال فيه، ونص القرآن فيه واضح.
لكن بالنسبة لبيع لبن الآدمية، هناك فرق بين لبن الآدمية ولبن الحيوان، فلبن الحيوان يجوز بيعه بالإجماع، لكن بيع لبن الآدمية اختلف فيه، فإن قالت لك: أبيعك هذا الكأس بمائة فللعلماء قولان: قال طائفة من العلماء: يصح بيع لبن الآدمية، ولا بأس بذلك؛ لأن الله تعالى أحل المعاوضة عليه بالإجارة، والإجارة نوع بيع، فإذا صحت المعاوضة عليه إجارة صحت المعاوضة عليه بيعاً من باب أولى وأحرى؛ لأن الإجارة مستثناة من الأصل، فمن باب أولى إذا كان العقد على صورة البيع الحقيقية، واستدلوا بقوله تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق:6].
الدليل الثاني: القياس، فقالوا: يجوز بيع لبن الآدمية إذا حلب كما يجوز بيع لبن بهيمة الأنعام، بجامع كون كل منهما فضلة حيوان ومباحة.
وبالنسبة لهذا القياس يقولون: أنتم تجيزون بيع لبن الإبل والبقر والغنم بالإجماع، ولا فرق بين لبن الآدمية ولبن الإبل والبقر والغنم، هذا فضلة حيوان وهذا فضلة حيوان، وكل منهما فضلة مباحة، فلا بأس بذلك.
وخالف في هذه المسألة الحنفية رحمة الله عليهم، ووافقهم بعض الحنابلة فقالوا: لا يجوز بيع لبن الآدمية إذا حلب.
واحتجوا بأن لبن الآدمية جزء من الآدمي، والآدمي لا يجوز بيع أجزائه أو أعضائه؛ ولذلك لا يجوز بيع الآدمية كما لا يجوز بيع أعضاء الإنسان الآدمي، بجامع كون كل منهما جزءاً من البدن، والإنسان لا يملك نفسه ولا يملك أجزاء نفسه فلا يجوز أن يبيعها؛ لأن البيع لا يصح إلا بشيء يملكه، فإذا كان الإنسان لا يملك أجزاءه فلا يصح أن يبيع ما لا يملك، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الإنسان ما لا يملك.
إذا ثبت هذا فالحنفية كلامهم صحيح: أن أجزاء الآدمية لا يجوز بيعها.
ثانياً: قالوا: إن بيع الآدمي فيه امتهان، والله يقول: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء:70].
فإذاً ينبغي أن يكرم.
أما مسألة الرقيق فهذه مستثناة لورود النص، لكن من حيث الأجزاء ليس عندنا نص يجيز البيع، فإذا ثبت أن أجزاء الآدمي ليست محلاً للبيع، فإذاً: لبن المرأة مثل يدها ورجلها وأعضائها.
فكما أنكم تقولون: لا يجوز بيع أعضاء الآدمية فإنه لا يجوز بيع لبنها، بجامع كون كل منها جزءاً من البدن.
واعترض عليهم الجمهور وقالوا: إن أعضاء الآدمية ليست كاللبن، فاللبن فضلة سائلة، وينفصل من البدن ويخرج منه، والأعضاء لا تنفصل إلا بضرر، فقال الحنفية: نعطيكم أجزاء تستحلب من البدن: فما رأيكم في دموع الآدمية أو دمها؟ وما رأيكم في البصاق واللعاب وغيرها من الفضلات السائغة هل يجوز بيعها؟ قالوا: لا يجوز بيعها، قالوا: إذاً لبن الآدمية لا يجوز بيعه كما لا يجوز بيع دموعها ودمها وفضلاتها.
قيل لهم: إن الدموع والفضلات لا فائدة فيها، ولكن اللبن فيه فائدة.
فالذي يظهر أن مذهب الجمهور بجواز صحة البيع هو الأقوى؛ لأن الله تعالى أحل دفع العوض على اللبن، وهذا يدل على أنه محل للمعاوضة، فكما جاز استحقاق الأجر عليه بالإجارة جاز استحقاق العوض عليه في البيع.
إذاً الخلاصة: أن استئجار المرأة للبن إن كان على المدة -كقوله: أرضعي ولدي ساعة، أو يوماً، أو شهراً- فهو جائز، وهو منصوص عليه في قوله تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق:6] وأما إذا كان العقد وارداً على ذات اللبن فهذا بيع، وفيه التفصيل الذي ذكرنا.
تبقى مسألة: لو كان الحليب في ثدي المرأة، فقالت المرأة: أبيعك ما في ثديي من اللبن.
لم يجز بإجماع العلماء والسبب: أن الذي في الثدي مجهول، ولا ندري أهو قليل أم كثير، فتحريمه من جهة الجهالة.