لو جاءك شخص وقال: عندي عقد إجارة لبيتي أو عمارتي أو سيارتي أو مزرعتي.
فأول ما تنظر في شروط الصحة، وعندك شروط تتعلق بالشخصين اللذين اتفقا على هذا العقد، وشروط تتعلق بالمنفعة نفسها والتي هي سكنى الدار، والمقصود هل هذه السكنى مأذون بها شرعاً أو غير مأذون بها شرعاً؟ هل هي معلومة أم مجهول؟ ونحو ذلك من الشروط المعتبرة، فإذا وجدت العلامات والأمارات المعتبرة للحكم بالصحة قلت: العقد في حكم الشرع صحيح.
وإن وجدت أي شرط من هذه الشروط قد اختل تقول: العقد غير صحيح.
مثلاً: جاءك رجلان وقالا: اتفقنا على أن أؤجره سيارة بعشرة آلاف لمدة سنة، فلما اتفقنا دفع المال، وبعد أن أحضرت السيارة رجع عن العقد وامتنع من قبول السيارة، فتقول له: هل السيارة كانت معلومة ومعروفة عند المستأجر؟ فإن قال: لا.
قلت له: هل وصفت السيارة صفة تزول بها الجهالة؟ فإن قال: لا.
قلت له: انصب عقد الإجارة على شيء مجهول الذي هو السيارة، ومن حق المستأجر حينما نظر إليها فلم تناسبه أن يرجع؛ لأنه يريدها لمنفعة قد يرى في غالب ظنه أن مثلها لا يقوم بهذه المنفعة.
إذاً: فأنت حكمت بفساد هذا النوع من العقد لجهالة العين المؤجرة.
ولو قال له: أؤجرك شقة في داخل مكة بعشرة آلاف، فيها أربع غرف، بصفات هي كذا وكذا وكذا لكن لم يحدد مكانها، فاتفق معه ودفع له جزءاً من الأجرة، فلما مضى لكي يريه الشقة وإذا بها نائية أو بعيدة عن الحرم، فقال له: أنا لا أرضى بهذه الشقة.
فإذا اختصما إليك فإنك تقول: اتفقتما على إجارة شيء فيه جهالة، وكان المنبغي أن تحدد مكان الشقة وأن تحدد مكان العمارة.
ولو أنهما اتفقا على تأجير عمارة أو سكن، ووصف هذا السكن فقال له: أؤجرك عمارة بجوار الحرم بعشرة ألف، وهذه العمارة من صفاتها كذا وكذا وكذا، ووصف العمارة وصفاً تاماً، فلما جاء إلى العمارة وجد أن هناك صفات لم توجد، وأنه ذكر له صفات لم يرها في العين المؤجرة، فقال له: لا أريد.
فإنك تقول: نعم، هذا من حقه؛ لأن الإجارة لا تصح إلا على شيء معلوم، ولما وصف لك المؤجر العين المؤجرة واختلفت الصفة فلك خيار الرؤية مثلما تقدم معنا في البيع.
فإذا أجر شيئاً حاضراً ناظراً، وقال: أؤجرك هذه العمارة، وأشار إليها، أؤجرك هذه السيارة؛ فحينئذ إذا استطاع أن يستجديها ويعرف صفاتها فإنه يستجديها ويعرف صفاتها، ولذلك فإنه لابد من معرفة العين المؤجرة، وخلو العقد من الجهالة في العين المؤجرة معتبر، فإذاً لابد من وجود صفات.
حينما يذكر الفقهاء هذه الشروط ينبغي لطالب العلم قبل أن يدخل في الشروط -حينما يقرأ: يشترط لصحة عقد الإجارة، يشترط لصحة الحج، يشترط لصحة الصوم- ينبغي أن يعلم أن هذه الشروط يقصد منها أمران: الأمر الأول: رفع الظلم عن العباد في الحقوق والمعاملات التي تقع بينهم.
والأمر الثاني: معرفة ما أذن الله به من العقود وما حرمه.
فإذاً: هذه الشروط في الأصل لا تأتي من فراغ، ولا تأتي إلا بدليل شرعي أو أصل شرعي يدل على اعتبارها، مثلاً: لو قال لك قائل: لماذا تشترط أن تكون العين المؤجرة معلومة؟ تقول: لأن الشريعة شريعة عدل، ولا تجيز للمسلم أن يأكل مال أخيه المسلم بالباطل، فالمستأجر إذا استأجر شيئاً مجهولاً فتح الباب لأهل الفساد أن يأكلوا أموال الناس بالباطل، فيأتيه ويقول له: أؤجرك عمارة بمائة ألف.
قال: قبلت.
فظن أنها بمكان طيب، فظهر أنها في مكان غير طيب، وقد قررنا هذا وبيناه، وبينا وجه اشتراط الشريعة وتشديدها في عقود المعاوضات عند كلامنا على شرط العلم بالثمن والمثمن في البيع.
فالحاصل: أن شروط الصحة هي: جملة من العلامات والأمارات التي نصبها الشارع للحكم بصحة العقد، وبناء على ذلك؛ فهذه الشروط التي سيذكرها العلماء تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: شروط ورد النص بها وبينها نص الكتاب والسنة.
والقسم الثاني: شروط فهمت من أدلة الشريعة أو مقاصدها العامة، أو نبه الشرع بالنظير على نظيره، والله عز وجل جعل الأشياء معتبرة بعللها إذا كانت معللة، وهذه العلل يقصد منها الإنقاص، ويلحق بها ما هو شبيه بها في تلك العلة، فإذا وجدنا عقد الإجارة آخذاً حكم عقد البيع؛ لأن المستأجر دفع المال لقاء المنفعة، والبائع والمشتري دفع كل منهما ما بيده لقاء الآخر، فأصبحا من عقود المعاوضة، فكما أن الشريعة اشترطت في البيع العلم وانتفاء الجهالة، ونهى صلى الله عليه وسلم -كما في الحديث الصحيح- عن بيع الغرر، نقول: لا تصح الإجارة إذا كانت على وجه الغرر.
وكما أن الله سبحانه وتعالى حرم علينا أن نأكل أموال الناس بالباطل، فنبيع التجارة على سبيل الكره أو على سبيل الغش الذي يؤكل به المال كله أو بعضه بالباطل، كذلك لا يجوز للمؤجر أو المستأجر أن يأكل مال أخيه بالباطل، فهو إذا أجره عمارة على أنها موصوفة بصفة كاملة، فدفع له عشرة آلاف -وهذا المال هو أجرة مثلها في الكمال- فتبين أنها ناقصة وأن مثلها يستحق الخمسة الآلاف -التي هي نصف الأجرة- فيكون قد أكل النصف الباقي بالباطل.
فإذاً: هذه الشروط إما أن تكون منصوصة كقوله عليه الصلاة والسلام: (من استأجر أجيراً فليعلمه أجره) فبين أنه لابد من العلم بالأجرة، وإما أن تكون ملحقة بالمنصوص عليه؛ لأن الشريعة قواعدها كلية وأصولها عامة، والفرع تابع لأصله، وكذلك يلحق النظير بنظيره عند وجود العلة المقتضية للإلحاق.