خلاف العلماء في حكم المزارعة

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.

أما بعد: فقد شرع المصنف رحمه الله في بيان ما يتعلق بعقد المزارعة، فبعد أن فرغ رحمه الله من بيان أحكام المساقاة شرع في بيان أحكام المزارعة، ومن عادة العلماء رحمهم الله -خاصة في مذهب الحنابلة- أنهم إذا فرغوا من بيان أحكام المساقاة أن يتبعوها بالمزارعة، وهذا ترتيب صحيح، والمجانسة بينهما واضحة، فإن المساقاة تكون في النخل والثوابت، والمزارعة تكون في حكمها بالنسبة للحبوب وأمثالها مما يزرع.

قوله رحمه الله: [تصح المزارعة] المزارعة: مفاعلة من الزرع، وعقدها يقع بين شخصين أحدهما: مالك الأرض، والثاني: العامل، فالطرف المالك للأرض يدفعها للعامل على أن يقوم بزراعتها، ثم يتفقان بعد ذلك على أن الخارج منها يكون بينهما مقاسمة: الربع، النصف، الثلث، على حسب ما يتفقان.

مثال ذلك: لو كان عندك أرض زراعية، وفيها ماء، تقول للعامل: خذ هذه الأرض وازرعها، ثم إذا زرعتها فنصف ما يخرج لي، والنصف الآخر لك، فهذا النوع من العقود ذهب جماهير السلف والخلف إلى جوازه ومشروعيته، ونسب هذا القول إلى الخلفاء الراشدين والصحابة رضي الله عنهم، حتى قال بعض أئمة السلف كما نقله الإمام البخاري: ما من بيت في المدينة إلا وأهله يزارعون ودرج على ذلك السلف في أزمنة الخلفاء الراشدين وقالوا: إن آل أبي بكر وعمر وعثمان وآل علي كلهم كانوا يزارعون.

وأما بالنسبة للمذاهب الأربعة فمذهب الحنابلة على جوازها، والشافعية أجازوها تبعاً للمساقاة، وأما المالكية فأجازوها إذا كانت في حدود الثلث تبعاً للسقي، وخالف في هذه المسألة الحنفية رحمهم الله كما هو قول الإمام أبي حنيفة، وإن كان الصاحبان القاضي أبو يوسف والإمام محمد بن الحسن رحمة الله على الجميع قالا بقول الجمهور.

إذا ثبت هذا فإن السنة دالة على جواز المزارعة، والدليل على ذلك حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما في الصحيحين، وفيه (أن النبي صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر بشطر مما يخرج منها) وهذا الحديث يستدل به العلماء على مشروعية صحة عقد المساقاة، وهذا لا إشكال فيه؛ لأنه في الأصل منصب على عقد المساقاة.

لكن بالنسبة للمزارعة في هذا الحديث فيمكن أن تؤخذ من قوله: (بشطر مما يخرج منها) يعني: من أرض خيبر، فشمل هذا ما يخرج من النخيل والأعناب، ومن الزروع، وتوضيح ذلك أن أرض خيبر كما قال العلماء لا يمكن أن تخلو من أرض بيضاء، ولا يخفى على الجميع أن المزارع من عادتها أن تكون فيها نخيل، ويكون هناك البياض الذي يتركه صاحب المزرعة للمواسم فيزرع فيه الحبوب كالقمح والشعير ونحو ذلك في فصول السنة التي يزرع فيها، أو يزرع فيها الخضروات أو نحو ذلك مما يمكن زرعه، فقالوا: إنه لا يمكن بحال أن تكون خيبر نخيلاً وعنباً فقط، وإنما من المعلوم والمعهود والمعروف أن هناك زروعاً.

فإذاً لا يشك أن الحديث فيه وجه لدخول المزارعة، وبناء على ذلك قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر على هذا الوجه، وأكدوا ذلك بأن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها حينما خيرها عمر رضي الله عنه بين الأرض وبين الزرع -يعني: نتاج الزرع- فاختارت الأرض، وبقية أمهات المؤمنين اخترن الحبوب، فمعنى ذلك أن هناك أرضاً تزرع وليس فيها نخيل، فـ عمر خير أمهات المؤمنين ما بين أن تأخذ الواحدة أرضها فتقوم بنفسها أو تستأجر من يقوم بزراعتها، وبين أن تبقيها على شرط المزارعة والمساقاة الموجودة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فاختارت أم المؤمنين الأرض وبقي بقية أمهات المؤمنين يأخذن نصيبهن من الحبوب، فدل على أن هناك مزارعة، وأن عقد المزارعة كان موجوداً إلى عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه.

وهذه المسألة من أوسع المسائل؛ لأنه يدخل فيها عقد المزارعة مع عقد إجارة الأراضي، فهناك ما يسمى بعقد إجارة الأرض، فهل يجوز للمسلم أن يؤجر أرضه للزراعة؟ لو كانت عندك أرض زراعية فأحب شخص أن يأخذها منك ويستأجرها سنة أو سنتين يزرع فيها، فهل يجوز ذلك أو لا؟ فأدخلوا مسألة إجارة الأراضي مع مسألة المزارعة، والسبب في ذلك أن صورة المزارعة التي معنا أن يأتي العامل إلى رب الأرض ويقول له: أنا أزرع هذه الأرض وأعطيك نصف ما يخرج، قال: قبلت، فمعنى ذلك أنه استأجر الأرض بنصف ما يخرج منها؛ فإذاً المزارعة نوع من الإجارة، فمن هنا تتداخل هذه المسألة مع مسألة إجارة الأراضي، وفي مسألة إجارة الأراضي ما يقرب من سبعة أقوال، وهو خلاف بين السلف قد نشير إليه في باب الإجارة.

لكن الذي يهمنا هنا الأحاديث التي اعترض بها على جواز المزارعة، وما ورد من السنة مما يحتمل تحريم المزارعة، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث رافع بن خديج، وهذا الحديث من أكثر الأحاديث إشكالاً عند العلماء رحمهم الله، وهو حديث صحيح ولا إشكال في ثبوته عن النبي صلى الله عليه وسلم، لكن المشكلة في فهم أو معرفة المراد من هذا الحديث.

فـ رافع بن خديج رضي الله عنه يحكي عن بعض عمومته من الصحابة رضوان الله عليهم: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهاهم عن المخابرة) والمخابرة: أصلها من الخبر، وهي الأرض الزراعية، وفُسِّر قوله: (عن المخابرة) أن يؤجر الأرض بجزء مما يخرج منها.

وجاء أيضاً عن رافع بن خديج كما في الصحيح أنه لما نهى عنها -يعني: نهى عن المزارعة- فسر النهي وقال: (إنما كانوا يؤاجرون على الماذيانات، وأقبال الجداول، فيسلم هذا ويهلك هذا، وأما ما كان بشيء معلوم مضمون فلا بأس به) هذه الرواية الثانية فسرت نهي النبي صلى الله عليه وسلم، فـ رافع بن خديج تارة يحرم عموماً ويفهم منه التحريم العام، وأنه لا يجوز لك أن تعطي أرضك الزراعية لشخص من أجل أن يزرعها ويأخذ جزءاً منها وهذا نفهمه من بعض الروايات من حديث رافع.

وبعض الروايات الأخرى نفهم منها أنه ينهى عن المزارعة إذا كان العقد على وجه الغرر والعقد الذي على وجه الغرر، أن تقول للشخص: ثم آخذ النصف الغربي وأنت تأخذ النصف الشرقي، أو آخذ النصف الجنوبي وأنت تأخذ النصف الشمالي فقالوا: لا يجوز لأنه يحتمل أن يسلم النصف الذي يأخذه هذا ويهلك النصف الآخر، فلا بد أن يكون الطرفان قد دخلا في عقد المزارعة على وجه لا يغرر أحدهما بالآخر، ومن هنا قالوا: إنه المقصود بقوله رضي الله عنه (إنما كانوا يؤاجرون) يعني: يؤجرون (على الماذيانات وأقبال الجداول) وذلك أن حياض الماء إذا كانت قريبة من القنطرة التي تجري فيها المياه فالغالب أن يكون زرعها جيداً ونتاجها سليماً، وإذا ابتعدت عن الحوض أو عن القنطرة القريبة التي فيها الماء الكثير فإما أن يموت الزرع لقلة الماء، وإما أن يخرج ضعيفاً، فهذا هو الذي يحكيه رافع، وهو معنى قوله: (إنما كانوا يؤاجرون على الماذيانات وأقبال الجداول، فيسلم هذا ويهلك هذا).

فمعناه أنهم يؤجرون إجارة فيها غرر، وفيها شيء من الغش، وصاحب المزرعة يقول: أنا لي القريب من الماء وأنت تأخذ البعيد من الماء، ومن هنا قالوا: حرم النبي صلى الله عليه وسلم هذا؛ لأن هذا يفضي إلى الخصومة، والمسلم لا ينبغي له أن يعامل أخاه المسلم على وجه فيه غرر ومخاطرة، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك.

قال رافع رضي الله عنه: (وأما ما كان بشيء معلوم فلا بأس به) إذاً: معنى ذلك أن تحريم النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه رافع في الحديث الأول مفسر بالحديث الثاني، هذا بالنسبة للوجه الثاني لحديث رافع.

وهناك حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه عند أبي داود في سننه، وذلك أنه لما بلغ زيداً أن رافعاً يحرم إجارة الأراضي على الصورة التي ذكرناها أنكر ذلك وقال: (يغفر الله لـ رافع أنا أعلم بالحديث منه، إنما كانوا يؤاجرون على الثلث والربع فكثرت خصومتهم عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة والسلام: (لا تكروا المزارع ونهى عن المخابرة، فقال: هذا شأنكم لا تكروا المزارع)، يعني: ما دام أن الزراعة تفضي بكم إلى الخصومة والنزاع والشقاق فالإسلام لا يحب الخصومة ولا يحب الفرقة، قال: (هذا شأنكم) أي: مادامت الأرض والدنيا تفسد ما بينكم من أخوة الإسلام فلا تؤجروا، ونهى عن إجارتها وجاء اللفظ برواية أخرى: (نهى عن المزارعة والمخابرة والمزابنة) هذا بالنسبة للأحاديث.

وقد كان الإمام أحمد رحمة الله عليه دقيق النظر في الأحاديث، ولذلك جمع الله له من العلم بالسنة ما لم يجمعه للأئمة من قبل، فإن الإمام أحمد بشهادة العلماء جمع الله له من السنة والآثار عن الصحابة ما لم يجمعه لإخوانه المتقدمين من العلماء كالإمام أبي حنيفة والإمام مالك والشافعي رحمة الله عليهم، كلهم أئمة ولكن الإمام أحمد رحمه الله تأخر عنهم واطلع على كثير من السنن والأحاديث وكان له فقه في سر الأحاديث واختبارها، فلما جاءه حديث رافع الذي يحرم المزارعة ونظر إلى حديث ابن عمر الصحيح الثابت في الصحيحين الذي يجيزها أخذ بحديث ابن عمر؛ فلما قيل له بحديث رافع قال رحمه الله: حديث رافع ألوان، أي: أن حديث رافع ما جاء على طريقة معينة وإنما جاء بأوجه متعددة.

وجاءت الرواية الأخرى عن الإمام أحمد قال: حديث رافع فيه اضطراب، وليس المقصود الاضطراب القادح ولكن الاضطراب الفقهي وهو: عدم اتفاق الروايات على وج

طور بواسطة نورين ميديا © 2015