وعند العلماء تفصيل: هل جواز هذا النوع من الشركة يتوقف على اتحاد الصنعة واتحاد الحرفة؟ أم أنه يمكن للشريكين مع اختلاف صنعتهما أن يتفقا؟ مثال ذلك: إذا كان هناك حدادان أو نجاران فاتفق الحدادان على أن يتقبلا من الناس العمل ويقوما بالعمل سوياً مثل صناعة الأبواب وصناعة الشبابيك من الحديد ونحوها من أعمال الحدادين، فاتفقا على أنه يتقبل كل واحد منهما من الناس، ثم يُدخلان هذه المواد الخام من الحديد ويُصَنِّعانها في محلهما وأن ما يكون من النتاج والربح مقسوم بينهما بالمناصفة، فاتفقا على ذلك، فحينئذٍ تقول: هذه شركة أبدان، قائمة على اتحاد الصنعة؛ لأن كلاً منهما حداد، وإذا كانا متفقين في الصنعة، فجماهير العلماء على أن شركة الأبدان تجوز.
كذلك في النجارة، لو أن اثنين يحسنان عمل النجارة، واتفقا في ورشتيهما على أن يتقبلا من الناس الطلبات، ويقوما مع بعضهما بصناعة الأبواب ونجارة الأبواب والشبابيك أو ما يُطلب منهما، أو ما يكون من عمل الديكورات الموجودة الآن من خشب، فكل هذا إذا اتفق فيه الطرفان فأكثر مع اتحاد الصنعة، فكل منهما يحسن النجارة، وكل منهما يحسن الحدادة فلا إشكال، ومن يقول بجواز شركة الأبدان يصحح هذا النوع من الشركات؛ لكن الإشكال إذا كان أحدهما يتقن صنعة غير صنعة الآخر، كأن يكون أحدهما حداداً والآخر نجاراً، فيتفقان على أن هذا يعمل في الحدادة، وهذا يعمل في النجارة، والربح بينهما.
فللعلماء في هذه المسألة قولان: بعض العلماء يجيز، وهو مذهب الحنابلة، ووافقهم الحنفية.
وبعضهم يمنع، كما هو مذهب المالكية.
يعني: نفس الجمهور الذين يقولون بجواز شركة الأبدان يختلفون إذا اختلفت الصنعة، وهذا مثل ما يقع في المجمعات الصناعية، إذا كان هناك محلان، ويختلف المحلان في الصنعة، فتارةً تكون من شركة الأبدان المختلفة، كحدَّاد ونجَّار، وتارةً تكون من شركة الأبدان المتفقة، كالحدادين والنجارين، فإنه يجوز أن يشتركا على هذا الوجه.
وتطبيق هذه الشركة في زماننا لها مجالات عديدة: منها: ما ذكرنا في الحدادة، فالآن -مثلاً- محلات الخراطة (خراطة الحديد) لو أن صاحبا محلين في خراطة الحديد اتفقا فيما بينهما، على أن يتقبلا من الناس الطلبات، ثم يقوم كل منهما مقام الآخر في التقبل وفي العمل، فلا بأس، وتقع شركة الأبدان على هذه الصورة.
والآن في زماننا يأتي المقاول فيأخذ بناء العمارة، ويأتي النجار ويأخذ -مثلاً- أبوابها الخشبية، ويأتي الحداد ويأخذ السلالم من الحديد أو نحوها، وينبغي مع شركة الأبدان اتحاد الصنعة تقول: يمكن لمقاولَين أن يتفقا فيما بينهما على أن يقوما بالمقاولات، ويتقبلا الأعمال المطلوبة منهما ويعملان سوياً، فيمكن أن يتفقا مع بعضهما بهذه الشركة ويقوما ببناء العمارة مع بعضهما، أو يقوما ببناء الفيلا أو نحو ذلك مع بعضهما، حينئذٍ تكون شركة أبدان مع اتحاد الصنعة.
كذلك لو أنهما اتفقا مع بعضهما على الحدادة، فأخذا عمارةً كاملةً على أن يقوما بصنع سلالمها أو نحو ذلك مما يستلزمه عمل الحدادة، فحينئذٍ نقول: هذه شركة أبدان؛ لكن كيف تكون شركة الأبدان على الصورة الثانية؟! أن يتفقا فيما بينهما مع اختلاف الصنعة، فمن الممكن أن يأخذا عمارة واحدة، أحدهما مقاول يبني، والثاني حداد للحديد الذي يُبنى به ويُصب عليه، وثالث: نجار لأعمال النجارة، فيتفقون جميعاً وتكون شركة، وتُبنى العمارة على هذا الأساس من الشركة، ويُقسم مال ونتاج العمارة بينهم، هذا إذا قلنا بجوازها مع اختلاف الصنعة.
ولا يمكن أن نحكم بالجواز إلا إذا كانا في عمل واحد.
وفي الحقيقة: القول الذي يقول بأنها تكون مع اتحاد الصنعة من القوة بمكان؛ لأنه -في الحقيقة- في حال اختلاف الصنعة الغرر قوي، وقد تحدث الفتنة في كثير من الصور وكثير من الأحوال لاختلاف الصنعتين؛ لكن إذا اتحدت الصنعتان وكان كل منهما يمكن أن يقوم مقام الآخر، فهو يعمل كعمله، ويمكن أن يقسم العمل بينهما، ويمكن ألَّا يضر أحدهما الآخر؛ لكن في حالة اختلاف الصنعة، أحدهما نجار والثاني حداد فيكون هناك نوع من الغرر ونوع من الغبن، ولربما تيسرت أعمال الحدادة أكثر من النجارة، أو النجارة أكثر من الحدادة، فيحدث شيء من الشحناء وتغير القلوب.
ولذلك النفس تطمئن إلى جوازها في حال اتحاد الصنعة، أما في حال اختلاف الصنعة فالشبهة قائمة.
فنقول إجمالاً: شركة الأبدان تكون مع اتحاد الصنعة، وتكون مع اختلاف الصنعة، وهي في اتحاد الصنعة أولى بالجواز منها عند الاختلاف؛ لكن بقيت مسألة، إذا كنا نقول: إن شركة الأبدان تكون مع اتحاد الصنعة، فعند اتحاد الصنعة تكون الأعمال متفقة بحيث يُبنى بعضُها على بعض، فهي لا تتفق من كل وجه؛ لكن ينبني بعضها على بعض.
مثال ذلك: نحن ذكرنا أنه إذا اختلفت الصنعة، فكان أحدهما حداداً والآخر نجاراً لا يجوز، ولو أن حداداً اتفق مع نجار فالأشبه عدم الجواز، والغرر موجود في هذا؛ لكن لو قلنا: لابد أن يكونا حدادَين أو نجارَين، فلو فرضنا أن العمل اتحد من حيث الأثر والنتاج واختلف في الوصف والمهمة التي يقوم بها، مثل: الغزل من أحدهما والخياطة من الآخر، فإذا كان أحد العملين مبنياً على الآخر، فالأمر أخف؛ لأن المقاولة تكون في هذه الحالة على عمل واحد، وحينئذٍ إذا كان أحد العملين مبنياً على الآخر فالأمر أخف.
مثلاً: محلات الخياطة، قد يوجد خياطان يكون أحدهما ماهراً في قص القماش وتهيئته للخياطة، والآخر ماهر في خياطة القماش، يمكن أن نقول: إنهما يشتركان وإن كان العمل مختلفاً، فأحدهما يفصِّل والثاني يخيط، نقول: لا بأس بذلك والغرر هنا يسير؛ لأن العمل المتقبل واحد، وشبهة الضرر في هذا النوع من اتفاق الصنعة خفيفة إن شاء الله.
وهكذا في اتفاقهما في الزراعة، إذا كانا مزارعين، أو كانا نجارين أو حدادين، وكان عمل أحدهما قائماً على الآخر، فلا بأس.
مثلاً: في الحدادة وفي النجارة تقطيع الأشياء التي يُراد لحامها في الحديد أو تسميرها في الخشب، فلو كان أحدهما متكفلاً بأخذ الأطوال ونحوها وهو يجيد ذلك، وماهر فيه، وقال للآخر: عليك التسمير، أو عليك اللحام، أو نحو ذلك، فلا بأس به، كما نص على ذلك طائفة من العلماء رحمة الله عليهم.
وهذا النوع من الشركات لا شك أن فيه تيسيراً للأمة وخيراً كثيراً، فإن أصحاب الحرف إذا اجتمعوا واشتركوا ائتلفت القلوب وحصل نوع من التعاون والتلاحم والتكاتف والتعاطف، وشعر كل منهما أن عمله لأخيه، وأن عمل أخيه له؛ لكن إذا كان هذا له محل حدادة، وهذا له محل حدادة، ربما وقع التنافس وربما وقع التباغض وربما وقع التحاسد، فحينئذٍ حينما يكون محلهما واحداً وأعمالهما واحدةً ونشاطهما واحداً، فإن هذا لا شك أنه يعين على تحقيق الأخوة وقوة أواصر المحبة بين أفراد المجتمع.
فمن الحكم التي تستفاد من جواز هذا النوع من الشركات: أنه يعين على الأخوة، ويحقق مقاصد الشريعة بالجمع بين المسلمين.