[وكذا مُساقاةٌ، ومُزارَعةٌ، ومُضارَبةٌ]: المساقاة: من السقي.
والمزارعة: من الزرع.
والمساقاة: أن يدفع رب الأرض التي عليها النخل وما في حكمه -وسيأتي إن شاء الله بيان ما الذي يلتحق بالنخل- أن يدفع النخل إلى العامل على أن يقوم بسقيه وإصلاحه ورعايته، والثمرة بينهما على ما اشترطا.
ومثال ذلك: عندك بستان ووقتك لا يسمح لك بالعمل فيه، أو ليست عندك خبرة بإدارة هذا البستان، فتأتي إلى عامل وتقول له: اشتغل في هذا البستان، واسقِ زرعه -يعني: النخل الموجود فيه- وأصلح النخل، ثم الثمرة الموجودة في النخل بيني وبينك مناصَفَةً، وقد فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك بيهود خيبر، كما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر على شطر ما يخرج منها)، فكانوا -أي: اليهود- يعملون في النخل، ويصلحونه، ويرعونه بالسقي، ويقومون على رعايته حتى تخرج الثمرة، فتُقسم بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستمر ذلك بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم في عهد أبي بكر، وفي عهد عمر رضي الله عنه، أخرجهم وأجلاهم، كما هو مشهور.
الشاهد: أن المساقاة أن يدفع رب الأرض للعامل الأرضَ على أن يعمل فيها، ويقول له: خذ جزءاً من الثمرة.
كيف نقدر المساقاة على مسألتنا؟ مثال ذلك أن يقول رب المال أو رب الأرض للعامل: اسقِ الأرض وأُرْضِيكَ.
فيقول: كم لي؟ فيقول له: لا يهمك، نتفق.
إذاً: يدخل المساقاة على جهالة، وهذا لا يجوز.
وإذا بطُلت ينقلب العامل إلى أجرة المثل، فيقدر تعبه، ويأخذ أجرة المثل، وسوف نبين ذلك إن شاء الله.
هذه هي جهالة النسبة.
ومن جهالة النسبة: إدخال المجهول على المعلوم، كقوله: اسقِ الأرض، ولك نصف ما يخرج، وهدية من عندي، أو رَضْوَة من عندي، فالرَّضْوَة مجهولة، وصحيحٌ أن نصف الثمرة معلوم.
وإذا قال: أعطيك نصف الثمرة، فهذا معلوم؛ لكن إذا قال: أعطيك هديةً أو رَضْوَةً، صيَّرت المعلوم مجهولاً، والقاعدة تقول: (دخول المجهول على المعلوم يُصَيِّر المعلومَ مجهولاً)، فصحيحٌ أنه حدد النصف أو الربع؛ لكنه حينما أدخل الهديةَ والرَّضْوَةَ المجهولة أصبح المعلوم مجهولاً، ولذلك لا يجوز هذا النوع.
فنحن ذكرنا أن يجهل النسبة، أو يُدخل مجهولاً على النسبة المعلومة، أو يُدخل معلوماً مفروضاً أو معيناً من الأرض: معلوماً مفروضاً: يقول له: اسقِ الأرض ولك نصف الثمرة، وأعطيك كل شهر مائة، أو أعطيك خمسين، أو نحو ذلك.
أو يقول له: اسقِ نخلي وزرعي وأعطيك الثمرة التي في النوع الفلاني، فقد يكون نخله -مثلاً- سكرياً أو برحياً، فيقول للعامل: إن سقيت المزرعة فلك ثمرة البرحي، ولي ثمرة السكري.
فهذا لا يجوز؛ لاحتمال ألَّا تخرج إلا ثمرة السكري، فيُظلم رب الأرض؛ لأن هذا ماله، وله الحق أن يأخذ منه، واحتمال ألَّا يخرج إلا البرحي، فيُظلم العامل، فيكدح طيلة عامه بدون ثمرة وبدون نتيجة، فهذا مما فيه غرر وفيه ضرر، وكما ذكرنا في الشركة أنه إذا حدد جزءاً معلوماً فلا.
وقد قيل في حديث رافع بن خديج رضي الله عنه والذي وقعت فيه الخصومة بين الصحابة رضوان الله عليهم والخلاف في نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن شراء المزارع، وعن إجارة الأراضي، حتى إن زيد بن ثابت رضي الله عنه استغفر لـ رافع وقال: (أنا أعلم بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم منه)، وكذلك جاء عن رافع ما يدل فعلاً على أن النهي المراد به أن يقول: اسقِ الأرض وآخذُ الذي هو قريب من الماء، وتأخذ البعيد من الماء.
وهذا فسره رافع كما في الصحيحين؛ يقول: (إنما كانوا يؤاجرون على الماذِيانات، وأقبال الجداول) فمن المعلوم أن القناطر كانت من التراب، وكانوا يزرعون، وبطبيعة الحال كان الثمر الذي يُزرع أو البذر الذي يُزرع بجوار القنطرة أجود وأفضل، وغالباً ما يسلم، فيقول رب الأرض: أنا آخذ الذي يلي الجدول، وأنت أيها العامل تأخذ الذي هو بعد الجدول، قال رضي الله عنه: (كانوا يؤاجرون على الماذِيانات -في القناطر- وأقبال الجداول -يعني: التي تجري فيها المياه- فيسلم هذا -أي: الذي عند الماء-، ويهلك هذا -البعيد عن الماء للعطش أو يخرج ضعيفاً-، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: وأما ما كان بشيء معلوم فلا بأس) يعني: ما كان لا غرر فيه ولا ضرر ويدخل الطرفان فيه فلا بأس، مثلاً: حينما يقول له: ولك نصف الثمرة، دخل الاثنان، الصالح منها وغير الصالح، ودخل الاثنان في غُنْمها وغُرْمهما.
وعلى هذا ذكر المصنف رحمه الله أنه لا يجوز للشريكين أن يغرر أحدهما بالآخر؛ لأن مقتضى عقد الشركة قائم على نصيحة كل منهما للآخر، ولا يمكن أن تصلح الشركة وأحدهما يستفضل نفسه على الآخر، ولا يمكن لشريك أن يعامل شريكه بأمانة ونزاهة ونصيحة وحرص على المصلحة للشركة إذا كان يعلم أن شريكه قد غبنه؛ لأنه يحس أنه مظلوم، ولربما تأثُّره بظلم شريكه يضر بمصالح الشركة، ولذلك لابد أن يدخلا وهما مستويان في الغُنْم والغُرْم.
وهذا على الأصل الذي ذكرناه، فلا يغرر رب المال، ولا يغرر الشريك بشريكه بتعيين ربح شيء معين، ولا نسبة مجهولة على الصفة التي بيناها وقررناها.