فهذا الفصل عقده المصنف رحمه الله لبيان بعض الأحكام والآثار المترتبة على الوكالة، فقد توكل شخصاً لكي يدفع مالاً أو يحفظ طعاماً أو أي شيءٍ آخر يقوم به، ثم يأخذ ذلك الشيء منك ويتلف عنده قبل أن يقوم بأدائه إلى شخصٍ آخر.
فمثلاً: إذا أعطيته مالاً على أن يدفعه إلى زيد، فأخذ المال منك بالليل على أن يدفعه صباحاً، فسرق منه في الليل، أو جاءت آفة سماوية وأتلفت هذا المال، فالسؤال حينئذٍ: هل نقول: إن هذا الوكيل أخذ شيئاً ويجب عليه ضمانه حتى يؤديه؟ أو نقول: إنه رجلٌ متبرع، وصاحب فضلٍ وإحسان: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة:91] وعقد الوكالة لا يستلزم تضمينه فنسقط الضمان عنه؟ أو نفصل ونقول: إذا كان قد فرط وتساهل أو تعدى على المال فإننا نضمنه، وإذا حفظ المال وقام بحقوق رعايته على الوجه المطلوب فإننا لا نضمنه؟ ومن أمثلة ذلك في عصرنا: لو أن رجلاً أعطى لآخر سيارةً يبيعها أو أعطاه سيارةً لكي يوصلها إلى شخصٍ آخر، وقال له: وكلتك أن تأخذ هذه السيارة وتعطيها إلى زيد أو إلى فلان، قال: قبلت: فأخذ مفاتيحها، ثم ركب هذه السيارة وأوصلها إلى منزله، فجاءت آفةٌ فأتلفتها أو أتلفت شيئاً فيها، أو أخذ السيارة وركبها وصار يقضي بها مصالحه إلى أن تعرض لحادثٍ أتلف السيارة أو أتلف جزءاً منها، أو أخذ السيارة من عندك وفي طريقه إلى بيته أصابها ضررٌ وعطل، ففي جميع هذه الصور كلها تسأل الناس: ما حكم هذا الوكيل؟ هل يجب عليه ضمان هذه الأعيان أو لا يجب عليه؟ هذا هو الذي يبحثه العلماء تحت مسألة: يد الوكيل هل هي يد أمانة أو يد ضمان؟ فعند العلماء: يدٌ تسمى يد الأمانة، ويدٌ تسمى يد الضمان، فإذا قلت: اليد يد أمانة، فإما أن يحصل منها تعدٍ أو يحصل منها تفريط، فإذا حصل منها التعدي أو حصل التفريط تقول: يجب عليها أن تضمن السلعة وأن تضمن المتاع والطعام والسيارة والأرض، ويجب عليها أن ترد ما أخذته على الوجه المطلوب، وإذا قلت: إن اليد يد ضمان فإنه يضمن سواءً فرط وتعدى أو لم يفرط.
وعلى هذا يرد السؤال في الوكيل: هل يده يد أمانة، أو يد ضمانة؟ قال بعض العلماء: يد الوكيل يد أمانة إلا إذا تعدت أو فرطت، وبناءً على هذا: فإننا لا نضمن الوكيل إلا في حالة التعدي أو في حالة التفريط، فعند أصحاب هذا القول: اليد يد أمانة من الوكيل مطلقاً، سواءً كانت الوكالة بعوض أو بدون عوض، والوكالة بعوض سبق وأن ذكرناها، مثل أن تقول لشخص: خذ سيارتي وأعطها فلاناً، أو وكلتك سيارتي هذه أن تبيعها بعشرة آلاف ولك ألف أو مائة أو خمسمائة، فهذه وكالة بجعل، وحينئذٍ يكون الوكيل وكيلاً في مقابل مالٍ أو منفعةٍ يأخذها.
فبعض العلماء يقول: الوكيل أمين مطلقاً، سواءً كانت الوكالة بعوض أو بدون عوض.
وبعض العلماء يقول: الوكيل يعتبر أميناً إلا إذا كانت الوكالة بجعل، فإذا كان يأخذ أجرة على وكالته كالمحامي أو نحو ذلك فهذا يده يد ضمان وليست بيد أمانة، فيد الضمان توجب أن يضمن الشيء، بغض النظر عن كونه فرط أو لم يفرط، فالشيء الذي يأخذه يرده حتى ولو غصبه الغاصب، كما لو ذهب بالسيارة ونزلت عليها آفة سماوية أو اجترفها السيل أو نهر بدون تعد وبدون تفريط منه نضمنه؛ لأنه حينما اعتدى وأخذها تحمل المسئولية، فيصبح ملزماً بردها بعينها، فإن تعذر العين وجب عليه رد المثل، وإن تعذر عليه رد المثل وجب عليه رد القيمة، فإذاً: يد الوكيل عند المصنف رحمه الله وطائفة من العلماء -وهو الصحيح- يد أمانة، لكن يضمن الوكيل إذا تعدى أو فرط.
فقال رحمه الله: [والوكيل أمين]، هذه الجملة تستلزم على الوكيل أموراً وعلى الموكل أيضاً أموراً، أما بالنسبة للأمور التي تتعلق بالوكيل إذا قلنا: إن الوكيل أمين: فالواجب عليه أن يحفظ الأمانة، ونحكم بكونه أميناً متى ما أدى وكالته على الصفة التي اتفق عليها، فإذا قيل له: خذ هذا المال وأده إلى فلان في العصر أو الظهر؛ فإنه أمين متى ما أخذه وحفظه بحفظه وحرزه، وأداه في الوقت المطلوب، فإن خرج عن هذه الحدود بتفريط أو بتعدٍ خرج عن الأمانة، ويعتبر في هذه الحالة متحملاً للمسئولية كما سنبين -إن شاء الله- مثال التعدي ومثال التفريط.
قال رحمه الله: (الوكيل أمين) بناءً على مسألة: (إن الوكيل أمين)، فإن الوكيل ينزل منزلة الموكل، والسبب أننا جعلنا الوكيل أميناً: أن الشخص إذا قال لآخر: خذ هذه السيارة أو خذ هذا الطعام وبعه أو أعطه لفلان فقد نزل الشخص منزلته وحينئذٍ إذا نزله منزلته، فإن الإنسان لا يضمن نفسه؛ لأنه من الناحية الفقهية أصبح الوكيل منزلاً منزلة الأصيل فلا يضمن، فلو أعطاه السيارة وقال له: اذهب بها إلى المعرض وبعها بعشرة آلاف، فكأنه نزل هذا الوكيل منزلة نفسه في بيع هذه السيارة بعشرة آلاف، فلو حصل تلف بآفة سماوية ليس في مقدور الوكيل أن يحفظ السيارة عنها، نقول: لا يضمن الوكيل؛ لأن الوكيل كالأصيل وكأنهما كالشيء الواحد، والإنسان لا يضمن نفسه، لكن حينما يتعدى الوكيل على السيارة فيأخذ فيها أولاده ويذهب يقضي بها حوائجه، أو يأخذ السيارة ويستخدمها استخداماً سيئاً، فالسيارة -مثلاً-: تحمل بطاقة معينة وحدود معينة، فحملها فوق طاقتها فتعدى، أو -مثلاً- أخذ السيارة وأوقفها في مكان معرض للحوادث فقد فرط، ففي هذه الحالة تقول: خرج الوكيل عن الأمانة وعن المعروف، فيتحمل المسئولية؛ لأنك حينما وكلته وكلتَه أن يقوم بهذا الأمر على المعروف، فإذا خرج عن المعروف فهو غير أمينٍ في خروجه عن المعروف المألوف، وعلى هذا قالوا: الوكيل أمين؛ لأنه مع موكله كالشيء الواحد، وضامنٌ إن خرج عن حدود الوكالة والمعروف.