Q حديث (إن الله يرحم من عباده الرحماء) هل يدل على أن من رحم الناس فقد استوجب رحمة الله ودخول الجنة كما في حديث الذي أزال الشوك من طريق المسلمين لا يؤذيهم فدخل الجنة؟ رحمة الله واسعة، وفضل الله عظيم، ومن ظن بالله خيراً فإن الله عز وجل يعطيه ما ظن به كما في الحديث الصحيح الذي رواه أحمد في مسنده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله تعالى يقول: أنا عند حسن ظن عبدي بي، فمن ظن بي خيراً كان له)، وعلى هذا فحسن الظن بالله سببٌ في رحمة الرب لعبده وإحسانه إليه في الدنيا والآخرة؛ ولذلك قال الله تعالى: {إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا} [الأنفال:70]، أما من حيث الاجتهاد وكون بعض الأعمال الصالحة توجب العظيم من رحمة الله فأولاً: الله يحكم ولا يعقب حكمه، الله يفعل ولا يسأل عما يفعل، {وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [الرعد:41]، ولا يسأل عما يفعل ونحن المسئولون والمحاسبون، الله جل جلاله وتقدست أسماؤه يفعل ما يريد: {إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [الحج:14]، فالواجب على المسلم دائماً أن لا يسأل عما يكون منه سبحانه وتعالى، لكن أجاب بعض العلماء في قضية غصن الشوك، أن النبي صلى الله عليه وسلم: (ذكر عن الرجل أنه مرّ على غصن الشوك، فقال: والله لأنحين هذا عن طريق المسلمين لا يؤذيهم)، في الحديث أمر ينبغي أن ينتبه له -وبعض النصوص قد يقرؤها بعض طلاب العلم، أو يقرؤها من ليس عنده إلمامٌ بأصول الشريعة فيفهمها على ظاهرها، والواقع أنه ينبغي رد هذه النصوص إلى العلماء، وأن لا نجتهد في تفسيرها إلا بالرجوع إلى الأئمة الذين أعطوا أهلية النظر في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد وصف الله أمثال هؤلاء بالرسوخ، فأخبر أن من هناك من رسخ في العلم- فالحديث فيه: (والله لأنحين هذا عن طريق المسلمين لا يؤذيهم)، قال بعض العلماء: معناه: أن قلبه غيب الخير لعموم المسلمين، يعني: هناك أمر عقدي يرجع إلى القلب، وهناك أمر ظاهر وهو زحزحة الغصن من الطريق، فالذي زحزح الغصن لم يزحزحه خوفاً على رجل أو على رجلين، ولكن خوفاً على المسلمين، فأعطي أجراً عظيماً بالنية؛ لأن عنده الشعور بحب الخير للمسلمين، وقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن الرجل لو بات وليس في قلبه غلٌ على مسلم دخل الجنة)، فكيف بمن قد انطوى قلبه وسريرته على دفع الضرر عن المسلمين؟! فهذا الشعور الإيماني نابع عن حب الخير للمسلمين، ولذلك كان العلماء يوصون بكثرة الدعاء للمسلمين، والترحم على أمواتهم، وحسن النية لعباد الله المسلمين، والشعور بأخوة الإسلام والترابط الذي أمرنا الله عز وجل أن نكون عليه بالألفة والمحبة والتناصر والتآزر، هذا هو الذي ترفع به الدرجات، وتعظم به الأجور، وتضاعف به الحسنات، فهذا الشعور الذي دعا العامل لهذا العمل اليسير جعله عظيما، وهذا معنى قول بعض السلف: (كم من عملٍ يسير عظمته النية) وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن رجلاً كان يقرض الناس، فقال لأعوانه: إذا رأيتم معسراً فتجاوزوا عنه، لعل الله أن يتجاوز عنا، فلقي الله، فقال الله عز وجل: نحن أحق وأولى بالعفو منه، تجاوزوا عن عبدي)، قالوا: لأنه من الممكن أن الشخص يسامح المديون من باب الشفقة والرحمة فهذا له منزلة، وممكن أن يسامح المديون من باب الشكر للنعمة؛ لأنه حينما أحس أن الله أغناه وأفقر غيره ونظر إلى نعمة الله عليه تذكر أيضاً قدرة الله عليه مع الغنى، فأصبح كأنه ليس بيده شيء فقال: تجاوزوا عنه لعل الله أن يتجاوز عنا، فأصبحت نيته صالحة موجبة لهذه العاقبة الحميدة، ولذلك ينبغي أن ينظر إلى النص بجميعه بما فيه من نية الباطن ودلالة الظاهر، وأما الفعل المجرد فإن الأفعال قد يفضل الله بعضها على بعض، وقد قال الله تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} [القصص:68]، فأفضل الأعمال وأحبها إلى الله أعمال القلوب التي تتصل بالعقيدة من التوحيد والإيمان ولوازم هذا الإيمان، فإن أعمال الجوارح لا تبلغ ما تبلغه هذه الأعمال كحب الله سبحانه، والإخلاص لله بالعبادة، وإفراده بالعبادة، وصدق اللجوء إليه بالرغبة والرهبة والخشية والخوف، فالإنسان إذا كان كثير الخوف من الله عز وجل والخشية له ربما أنه تمر عليه لحظة وهو يستشعر عظمة الله عليه فتفيض عيناه من الدمع، فيغفر الله بهذه الدمعة ذنوبه كلها، فالإنسان إذا أعانه الله سبحانه وتعالى ينبغي أن ينظر إلى فضائل الأعمال، وأن يختار منها أجمعها وأعظمها على الخير، وأما الرحمة التي سألت عنها (فإن الله يرحم من عباده الرحماء) رحمةُ الله ليس لها منتهى، ومن رحمته سبحانه: إذا أراد المسلم أن ينظر إلى عظيم رحمته فلينظر إلى ما في هذا الكون من رحمة الخلق بعضهم ببعض، فهو جزءٌ من مائة جزء من رحمة الله عز وجل، فإن الله عز وجل قسم الرحمة إلى مائة جزء، وأرسل للعباد جزءاً واحداً، وهذا الجزء هو الذي يراه الإنسان من رحمة الوالدة لولدها، ورحمة الوالد بولده، ورحمة الناس بعضهم ببعض، فإذا كان يوم القيامة جمع ذلك الجزء إلى ما عنده فرحم به خلقه سبحانه وتعالى، وأعظم ما يرحم الله به عبده العفو والمغفرة، فإنه من أعظم نعم الله عز وجل على العبد، أن يتلقاه بعفوه ومغفرته، خاصةً إذا تاب العبد إليه وأناب إليه سبحانه: (يا ابن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني لغفرتها لك ولا أبالي) فالإنسان حينما يتذكر أنه يسيء ويظلم ويخطئ، ومن رحمته سبحانه وتعالى أنه ستر خطيئته وعيبه وفضيحته، وأعطاه الحول والقوة ومكنه، ومع ذلك: لو أذن للأرض أن تخسف به لانخسفت، ولو أذن للسماء لأرسلت قاصفاً من الريح فأهلكه، ولو شاء الله عز وجل أن يمسخه على مكانته فلا يستطيع حيلة ولا يهتدي سبيلا، لقدر الله على ذلك ولا يعجزه شيء، ولكن من رحمته سبحانه لم يفعل به ذلك كله، ثم إذا تاب وأناب ورجع إلى الله تلقاه الله بعفوه ومغفرته، فما أكرمه وما أحلمه وأرحمه! فيفرح بتوبته، والعبد أفقر ما يكون إليه، وهو سبحانه أغنى ما يكون عنه، سبحانه ما أرحمه، سبحانه ما أرحمه! فنسأل الله العظيم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يرحمنا برحمته الواسعة، اللهم إنا نسألك رحمةً من عندك تهدي بها قلوبنا وتجمع بها شملنا، وتؤلف بها بين أرواحنا، اللهم إنا نسألك رحمةً تهدينا بها فلا نضل أبداً، وتصلح بها أحوالنا فلا تفسد أبدا، وتثبتنا بها على صراطك المستقيم، وسبيلك القويم يا أرحم الراحمين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.