فقال رحمه الله: (والوكيل في الخصومة).
الوكيل في الخصومة: هو الشخص الذي تنفذه وكيلاً عنك للدفاع عن حقٍ من حقوقك سواءً كان من الحقوق المالية أو غيرها على تفصيل عند العلماء رحمهم الله في محل الوكالة في الخصومة، فيجوز للمسلم أن يوكل غيره في الخصومة عنه، فدل قوله رحمه الله: (والوكيل في الخصومة أنه لا يقبض) على جملةٍ من المسائل منها: المسألة الأولى: أنه يجوز للمسلم أن يوكل غيره في الخصومة، والخصومة تقع في القضاء، فإذا وقعت بين شخصٍ وآخر خصومة ونزاع في أرض -مثلاً- أو في عمارة أو في سيارة أو في مال فأراد أحدهما أن يوكل شخصاً آخر عنه لكي يقوم بالمخاصمة أمام القاضي عن هذا الحق، فإن جماهير السلف والخلف رحمهم الله على جوازه، وحُكي إجماع الصحابة على مشروعية هذه الوكالة، فيجوز لك أن توكل غيرك أن يخاصم، وقد جاء عن علي رضي الله عنه وأرضاه أنه وكّل عقيل بن أبي طالب أخاه في خصومة كانت عند أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه، ولما كان زمان عثمان بن عفان وقعت خصومةٌ أخرى فوكل علي رضي الله عنه عبد الله بن جعفر أن يخاصم عنه، وقال رضي الله عنه قولته المشهورة: (إن في الخصومة إقحاماً وإن الشيطان يحضرها، وإني أكره أن أحضرها).
فقوله رضي الله عنه: (إن في الخصومة إقحاماً)، الإقحام: هو الهلاك، والمقحمة هي: المهلكة، وكأنه يقول: إن في الخصومات والنزاعات قد يستزل الشيطان أحد الخصمين فيقول كلاماً يوجب غضب الله عليه وسخطه، خاصةً وأن الحقوق أمرها عظيم، فقال رضي الله عنه: (إن في الخصومة إقحاماً)، فلربما كان الإنسان صاحب حق، فحينما يرى الظالم يتمادى في ظلمه ويكذب ويدعي أشياء مكذوبة ملفقة ربما سبه وشتمه واستزله الشيطان في أمور قد تكون أعظم من قضيته، وكذلك أيضاً لو كان ظالماً فالأمر أشد، فإن الشيطان ربما منعه من الاعتراف بالحق واستزله حتى لا يقول الحق على نفسه، ونحو ذلك مما يقع في الخصومات، فامتنع رضي الله عنه من شهود مجلس القضاء ووكل من يقوم عنه، ولما وكّل عقيل بن أبي طالب أخاه قال: (ما كان له فلي، وما كان عليه فعلي).
يعني: وكلته فجميع ما يتمكن منه بالخصومة من حقي فهو لي؛ لأن الفرع تابع للأصل، وجميع ما يقر به أو يكون عليّ بسبب خصومته عني فإني ألتزم به، وهذا هو الأصل الذي تقتضيه الوكالة، والوكالة لها حالتان: الحالة الأولى: أن يكون بإمكانك أن تأتي إلى مجلس القاضي.
والحالة الثانية: أن لا يكون بإمكانك إما لمرض أو سفرٍ أو نحو ذلك، فهل يجوز لك أن توكل في كلتا الحالتين، سواءً وجد العذر أم لم يوجد؟ أما من حيث حالة وجود العذر كالمرض والسفر ونحوه مما يتعذر ويصعب معه الحضور فيجوز عند العلماء أن توكل قولاً واحداً، ولكن لو كان الإنسان قادراً على الحضور وهو في المدينة، فهل يجوز أن يوكل غيره أن يدافع عنه؟ فقال جمهور العلماء: يجوز أن يوكل حتى ولو كان قادراً على الحضور؛ والسبب في هذا: أنه ربما لن تستطع أن تتفرغ لشهود مجلس القضاء، ولربما كان الخصم سفيهاً أو إنساناً فيه جرأة على الفضلاء والأخيار، ولذلك يمتنع الإنسان عن مخاصمة مثله، ولربما كان إنساناً له مكانته يستحي الإنسان من أن يخاصمه، فحينئذٍ يضطر إلى توكيل غيره، وكذلك أيضاً لربما كانت الموانع هذه كلها غير موجودة، ولكنك لا تحب أن تجلس هذه المجالس، ولا تحب أن تشهد هذه المواطن لوجود حق العلم ونحو ذلك من الفضل، وإلا فيجوز للمسلم أن يشهد مجلس القضاء ولا إشكال في ذلك، وقد جلس الصحابة والفضلاء والعلماء رحمهم الله في مجالس القضاء، وهذا لا ينقص قدر الإنسان؛ لأن شهود مجالس القضاء والإذعان للحق واجب على كل مسلم أن يلتزمه، وأن يرضى به إذا دُعي إلى حكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولكن المراد أن هناك حسناً وهناك أحسن، فإذا أمكن للإنسان أن يوكل جاز له أن يوكل سواءً كان حاضراً أو كان غائباً.
كذلك ذكر العلماء علةً أخرى وهي: أنه ربما كان الإنسان عاجزاً عن التعبير ولا يحسن إقامة الحجة لنفسه، وكان خصمه ذكياً فطناً ربما تصيد العبارات أو الكلمات أو تصرف تصرفاً يوجب ضياع الحق من صاحبه، فلذلك قالوا: يشرع للإنسان أن يوكل سواءً وجد العذر أو لم يوجد، وهذا هو الصحيح: أنه يجوز أن يوكل عنه من يشهد القضية سواءٌ كان عنده عذر أو لم يكن عنده عذر.