إذا وكل الإنسان غيره أن يبيع أو يشتري فهل هذا على الإطلاق وهل يشمل الوكيل أو لا يشمله؟ فلو قلت لرجل: بع داري أو عمارتي أو أرضي أو مزرعتي أو سيارتي، فذهب وعرف أن قيمتها عشرة آلاف -مثلاً- فباعها واشتراها لنفسه، فهل يجوز للوكيل أن يشتري من موكله بالوكالة، أو لا يجوز؟ والعكس أيضاً: فلو قلت له: اشتر لي بعشرة آلاف سيارة من نوع كذا، وعنده سيارة بنفس الصفات ونفس القيمة، فباعك هذه السيارة من نفسه فهل يصح ذلك، أو لا يصح؟ وقبل بيان الحكم حتى تتضح صورة التوكيل نقول: إذا وكل الإنسان غيره فلا يخلو توكيله من حالتين: الحالة الأولى: أن يقيد في الوكالة.
الحالة الثانية: أن يطلق في وكالته.
فأما الحالة الأولى وهي أن يقيد في الوكالة: فيقول لك: بع سيارتي هذه بعشرة آلاف إلى فلان، فإذا حدد لك الشخص الذي تبيع السيارة عليه، أو حدد لك الشخص الذي تشتري منه السيارة، فلا يجوز للوكيل أن ينصرف إلى غيره لا في البيع ولا في الشراء، فإذا انصرف إلى غيره فقد خرج عن الوكالة، وصار التصرف تصرفاً فضولياً، حكمه حكم بيع الفضول وشرائه، وقد تقدم معنا حكم بيع الفضولي وشرائه، بناءً على ذلك: إذا كانت الوكالة مقيدةً بشخصٍ فلا يجوز صرفها إلى شخصٍ آخر سواءً في البيع أو في الشراء، فمثال البيع: أن تقول له مثلاً: بع سيارتي على فلانٍ بعشرة آلاف، أو بع أرضي على فلان بعشرة آلاف، فحينئذٍ يجب على الوكيل أن يتقيد بهذه الوكالة، وأن لا يصرف البيع إلى الغير، ولا إلى نفسه.
أما بالنسبة للشراء: فكأن يقول له: اشتر لي سيارةَ فلانٍ أو اشتر لي عمارة فلانٍ، فلا يجوز أن يشتري عمارة غيره، ولا يجوز أن يشتري عمارة نفسه وجهاً واحداً.
الحالة الثانية: أن يقول الوكيل: يا فلان! اشتر لي سيارةً من نوع كذا وكذا بعشرة آلاف، ولم يحدد لك المعرض الذي تشتري منه، ولا الشخص الذي تأخذ منه، فحينئذٍ يرد سؤالٌ فقهي عن الوكالة مطلقة، فالوكالة المطلقة لا تتقيد إلا بأحد أمرين: إما اللفظ، وإما العرف بالنسبة للمعاملات، وقد يدخل التقييد الشرعي، فإذا قال لك: اشتر لي سيارةً بعشرة آلاف، فهل هذا الإطلاق مقيد أو هو على الأصل من أنه مطلق؟ وللعلماء وجهان: بعض العلماء يقول: إذا قال لك: بع لي عمارتي بعشرة آلاف، أو بعها بقيمة السوق، فإنه قد أطلق، حتى لو أردت أن تشتري لنفسك فلا بأس؛ لأنه قال: بع، ومقصوده أن يحصل على الثمن، بغض النظر أن تكون أنت المشتري أو يكون غيرك، هذا مذهب طائفة من العلماء رحمهم الله.
المذهب الثاني يقول: إن الإطلاق من صاحب السيارة مقيدٌ بالعرف، وكأنه حينما قال لك: بع سيارتي بعشرة آلاف، كأنه يقول لك: بعها إلى غيرك، ولم يقصد أن يبيعها لك أنت، قالوا: فإذا اشتريتها أنت لنفسك خرجت عن الوكالة.
فعندنا وجهان للعلماء: الوجه الأول يقول: من قال لك: وكلتك في أمرٍ أخذاً أو إعطاء فإنه يبقى على إطلاقه، حتى لو أردت أن تبيع وتشتري من نفسك فلا بأس، ويدخل في هذا التوكيل في الإجارات، فمثلاً: لو أن شخصاً أراد أن يصور مذكرةً أو كتاباً، فقال لك: يا فلان! صور لي هذا الكتاب بمائة ريال، أو صوره بسعر السوق، وعندك آلة تصوير، فذهبت وصورت الكتاب كاملاً وقيمة التصوير في السوق مائة ريال، وجئت وقلت له: التصوير يكلف مائة، فأخذت منه المائة، فهذه إجارة أيضاً، وكذلك لو وكلك على شيء قمت به بنفسك، كما لو قال: يا فلان! رتب لي هذه المكتبة بمائة أو بخمسين، فبدل أن يقوم ويأتي بشخصٍ أجنبي قام هو بنفسه ورتبها دون علم الموكل ودون إذنه.
فالمسألة لا تختص بالبيع والشراء، بل حتى في الإجارة حينما يوكلك شخص على إجارة معينة فتقوم أنت بنفسك وتستأجر المحل، ولو قال لك: هذه شقتي أجرها بعشرة آلاف في السنة، فنظرت فإذا هي طيبة وتستحق أن تسكنها، فأخذتها لنفسك أو استأجرتها لولدك أو لزوجك أو لأحد قرابتك، لكنك أنت الذي توليت العقد، ففي هذه الصور كلها يأتي الوجهان للعلماء: من أهل العلم من يقول: الوكالة المطلقة تستلزم حصول الغرض، بغض النظر عن الشخص الذي يريد أن يبيع أو يشتري معه سواءً كان الوكيل أو غيره.
الوجه الثاني يقول: إن الوكالة المطلقة مقيدة بالغير، فلا يصح للوكيل أن يدخل بين الموكل وبين الأجنبي.
والذين يقولون: الوكالة المطلقة مقيدة، فلو قال لك شخص: بع السيارة، فلا يجوز أن تشتريها لنفسك، استدلوا بدليلين: الدليل الأول: قالوا: إن الإطلاق في اللفظ مقيدٌ بالعرف كما ذكرنا؛ لأنه قال لك: بع سيارتي بعشرة آلاف يقولون: ولو كان المراد أن تشتريها أنت لقال لك: يا فلان! اشتر سيارتي بعشرة آلاف، فكونه يخاطبك على وجه الإطلاق، فهذا الإطلاق المراد به الأجنبي عنك ولست داخلاً فيه.
الوجه الثاني: أن التهمة تحصل للوكيل، فإن الوكيل ربما حابى لنفسه، فالنفوس مجبولة على جلب الخير لها ودفع الضرر عنها، وعقود البيع والشراء فيها غبن وغرر، والغالب أن الإنسان لا يدخل الضرر على نفسه لأجل موكله، بعبارةٍ أخرى: لو كانت السيارة قيمتها عشرة آلاف فستشترها بتسعة آلاف ونصف أو تشتريها بتسعة آلاف إلا ربع، أو يشتريها بتسعة، فقالوا: لو فتحنا للوكلاء أن يبيعوا ويشتروا لأنفسهم لأضر ذلك بأموال الناس، والشريعة جاءت بدفع الضرر، وليس كل وكيلٍ يكون أميناً في مثل هذا، هذا حاصل ما استدل به من منع.
ومن أجاز وقال: يجوز لك أن تبيع وتشتري لنفسك، ويجوز لك أن تؤجر لنفسك، وأن تتولى الطرف الثاني للعقد، قالوا: إنه أطلق الوكالة، والقاعدة تقول: (المطلق يبقى على إطلاقه)، وهذا الإطلاق يشمل الوكيل؛ لأنه قال له: بع سيارتي ولم يقل: من غيرك، إنما قال له: بع سيارتي، فكما أن غيره يدخل في هذا الإطلاق، كذلك هو داخلٌ فيه.
الوجه الثاني: أن المقصود من الوكالة هو بيع العمارة أو بيع السيارة أو حصول المنفعة، وليس هناك في الشريعة نظر للشخص الذي سيقوم بتلك المنفعة، فعندما قال لك: بع العمارة، لو كان له غرض في الشخص الذي يشتريها لكان قال: بع العمارة إلى فلان، بع العمارة إلى الضعفاء، أجر العمارة بخمسمائة للفقراء مثلاً، فلما كان مالك السلعة لا غرض له في الطرف الثاني وليس له مقصود في الطرف الثاني، وقال لك: بع العمارة، أو صوّر الكتاب، فالمقصود أن يحصل التصوير وأن يحصل البيع وأن يحصل الشراء بغض النظر عن الطرف الثاني، وهذا الوجه الثاني هو الصحيح: أنه يجوز للوكيل أن يتولى الشراء بنفسه والبيع لنفسه ولا حرج عليه، فإذا أعطاك رجلٌ مالاً على أن تشتري عمارةً أو سيارةً أو أرضاً فلا حرج أن تكون الطرف الثاني الذي يبيع، ولا حرج عليك إذا أعطاك أرضاً لكي تبيعها أو شقةً من أجل أن تؤجرها أن تكون الطرف الثاني المشتري أو المستأجر، والدليل على ذلك: أولاً: إطلاق اللفظ، والألفاظ معتبرة في العقود.
ثانياً: قولهم: إن التهمة تلحقه؛ لأنه ربما حابى نفسه، نقول: نحن نشترط أن لا يكون الوكيل قد حابى نفسه، فنحن نصحح البيع ولكن نقول: بشرط أن لا يحابي نفسه، وأما قولهم: إن التهمة موجودة، فهذا لا يستلزم البطلان؛ لأنه ربما باع الوكيل إلى أحد قرابته، فلو أن الوكيل باع لأحد أقربائه فإن التهمة موجودة، لكن كونه يبيع بثمنٍ المثل هذا لا تهمة فيه، وبناءً على ذلك نقول: إذا اشتريت العمارة بثمنها، والسيارة بحقها، والأرض بقيمتها، فبيعك صحيح، وشراؤك صحيح، وعلى هذا يكون فيك طرفان من العقد: بائع من وجه ومشتر من وجه، بائع وكيلاً، ومشترٍ أصيلاً، بائع عن غيرك ومشترٍ لنفسك، أو بائع لنفسك ومشترٍ لغيرك، إذا عُرِفت هذه المسألة فهناك مسألة ثانية: إذا قلنا: يجوز للشخص أن يكون وكيلاً في البيع والشراء، فهل يشمل ذلك الحقوق المالية؟ فمثلاً: الحقوق المتعلقة بالعبادات، لو أن رجلا أعطاك مائة ألف، أو أعطى رجلاً مائة ألف وقال: أعطها للفقراء، أو للمستحقين زكاةً، وكان الشخص الذي هو وكيل فقيراً أو مديوناً أو مجاهداً فله سهم الفقر، أو سهم الغُرم إذا كان مديوناً، أو سهم الجهاد في سبيل الله إن كان من المجاهدين، فهل يجوز له أن يأخذ من هذا المال إذا وكّل بالزكاة؟ للعلماء أيضاً وجهان: الوجه الأول: لا يجوز له أن يأخذ من هذه الزكاة بل يدفعها إلى الغير حتى ولو كانت فيه صفة الغير.
الوجه الثاني: يجوز، وهو الأقوى، إلا أن الأورع والأشبه أن لا يأخذ، والأفضل أن لا يأخذ؛ لأن المشكلة في الزكاة شبهة العبادة بخلاف مسألة البيع والشراء؛ لأن مسألة البيع والشراء المقصود: حصول الثمن، لكن الزكاة فيها شيء من التعبد، فالذي دفع الزكاة دفعها لغيرك بنية الغير ولم يدفعها بنية أن تكون لك، ولذلك هذه الشبهة تجعل الأفضل والأورع للإنسان أن يتقي ذلك وإن كان أصل المسألة في الوكالة صحيحاً؛ لأن المعنى الذي أجزنا به البيع والشراء ضعيفٌ في مسألة الزكاة، لذلك من حيث الورع الأولى أن لا يأخذ.
الخلاصة: يجوز للشخص إذا وكل ببيع الشيء وشرائه أن يشتري لنفسه، ولكن بشرط أن لا يحابي، فلو قال رجل لرجل: بع سيارتي في السوق فذهب إلى السوق وحرج على السيارة أو أقام عليها مزاداً ووصلت إلى عشرة آلاف، فقال: أنا أشتريها، ودفع العشرة الآلاف صح ذلك، لكن الإشكال ليس هنا، فلو أنه أقامها في المزاد، وقيمتها عشرة آلاف، والذي زاد بالعشرة شخص معين، فقال: أنا أشريها بعشرة آلاف، فحينئذٍ يرد
Q هل من حق الوكيل أن يأخذها لنفسه بعشرة آلاف؟ نقول: لا، حتى يزيد عليه؛ لأن هذا الرجل الذي زاد بعشرة آلاف يستحق السيارة، فإذا جاء الوكيل يزاحمه فقد استغل وكالته، وأخذ لحظ نفسه، فيدخل معه في المزاد كسائر الناس دفعاً للتهمة والريبة، وهكذا لو كان المبيع عمارةً أو أرضاً أو مزرعةً وكانت بالمزاد فإن الوكيل لا يأخذ بآخر المزاد إذا كان هناك من يرغب ووقف عليه المزاد إلا إذا نافسه، فإذا نافسه صح له ذلك.
يبقى السؤال: لماذا نصحح للوكيل أن يكون بائعاً من وجه ومشترٍ من وجه أليس هذا تضاداً؟ فالإنسان إما بائعٌ وإما مشتر، فكيف نقول: يبيع السيارة لنفسه ويبيع الأرض لنفسه ويشتري لنفسه؟ قالوا: هذا لا إشكال فيه؛ لأنه يجوز أن يتولى الشخص الواحد طرفي العقد كما في ابن العم يتزوج اليتيمة تحت ولايته؛ فإنه زوج من وجه وم