Q إنسان له فضل عليّ بعد الله سبحانه وتعالى، وأراد أن يشتري مني سلعة، فبعته حياءً منه لا رغبة بالبيع، فهل يجوز هذا البيع؟
صلى الله عليه وسلم الحكم في الشرع على الظاهر، والبيع إذا استوفى أركانه وشروطه فهو صحيح، وكونك غلبك الحياء فهذا لا يؤثر في ظاهرك؛ لأنه ليس ثم أحد فرض عليك ذلك، وليس ثم أحد أكرهك عليه، وكونك تجامل أو تتنازل عن حقك هذا بالنسبة لك أنت، فأنت الذي تتحمل المسئولية؛ لأنك بين نارين: بين أن تباشره وتقول: لا أرغب في البيع، وبين أن تصبر على البيع، وحينئذٍ يكون فضله منفكاً عن مسألة الحقوق، وبين أن ترضى بالبلاء فتبيع وتأخذ الثمن والله سبحانه وتعالى يعوضك، لكن ينبغي على أهل الفضل كالعلماء وطلاب العلم ألا يحرجوا الناس، وألا يتخذوا من علمهم وسيلة للدنيا.
هذا أمر محتم، ينبغي على طالب العلم أن يتنبه له، خاصة في هذا الزمان الذي أصبح فيه طالب العلم يأكل ويشرب بعلمه، ويتعالى على الناس بعلمه، ويحرج الناس بعلمه وفضله، وأعرف من مشايخنا -رحمة الله عليهم- أنه كان يتجنب إذا دخل السوق أن يشتري من شخص يعرفه، كل ذلك خوفاً من أن يكون قد أخذ بعلمه شيئاً من الناس.
وهذا هو الورع حيث ينبغي أن يبتغى العلم للآخرة: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} [الفرقان:57] فالإنسان إذا تعلم العلم ينبغي أن يجعله لله والدار الآخرة.
ولذلك قال ابن عمر رضي الله عنهما: (إذا كنت في السفر صائماً فلا يشعر بك من معك، إنهم إن شعروا بك قالوا: أنزلوا الصائم، افرشوا للصائم، ارفعوا رحل الصائم حتى يذهب أجرك في الصيام) أي ساعدوه، فتصبح كلاً عليهم بعبادتك فكأن العبادة أصبحت وسيلة للدنيا.
فينبغي للإنسان ولطالب العلم وللفاضل وللورع أن يتقي مثل هذا، خاصة الشيخ مع طلابه أو ممن له فضل، فلا يطلب من الناس أجراً، إنما يكون أجره على الله، والعلم إذا قصد به وجه الله وابتغي به ما عند الله باركه الله لصاحبه، وبارك الله في ثمرته وعاقبته، وأصبح الإنسان محفوظاً في علمه، وأصبح العالم محفوظاً في علمه، وطالب العلم محفوظاً في طلبه ما اتقى الله عز وجل في هذا العلم وأراد به الله والدار الآخرة.
فينبغي للمسلم أن يضع هذا نصب عينيه، وأن يخاف شدة الخوف، والله إني لأعرف من بعض المشايخ -رحمة الله عليهم- إذا اشترى شيئاً من شخص يعرفه -خاصة في الصفقات الكبيرة- يذهب ويرسل من يسأل في السوق كم قيمتها، كل ذلك خوف المجاملة.
ولقد حضرت بعض مجالسه أنه يستحلفه بالله أن قيمتها كذا، كل ذلك من أجل ألا يدخل إلى ذمته شيئاً من حقوق الناس ويصبح كلاً عليهم، وإذا نظر الناس لأهل العلم وطلاب العلم والفضلاء فوجدوهم لا يبالون بالدنيا، وأن الدنيا تحت أقدامهم وأنهم علموا لله وابتغوا ما عند الله ورجوا الدار الآخرة؛ أحبهم الله ووضع لهم القبول، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (ازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس) فإذا رُئي العالم وطالب العلم عفيفاً عن أموال الناس، وعن حقوقهم، وعن مظالمهم، فإن الله يحبه ويبارك له، ووالله ما تركت شيئاً من الدنيا لله إلا عوضك الله أطيب منه وأزكى لدينك ودنياك وآخرتك.
وهنيئاً لمن وفقه الله فصان الله به وجه العلم، وصان به كرامة العلم، وعرف أنه لا يتبلبل بعلمه وأنه لا يبيع ويشتري بعلمه، فيذهب إلى السوق والتجارات فيمتهن.
ولذلك تجد من يفعل هذا الفعل يركبه أهل الدنيا، ويجد من تسلط السفهاء والرعاع عليه ما يكون ثمناً لهذا التنازل عن دينه وعلمه.
فالواجب على المسلم أن يتقي الله وألا يحرج الناس في حقوقهم، وألا يستغل منصبه أو مكانته من كونه معلماً أو مدرساً فيأتي لطالبه أو لمن هو دونه من أجل أن ينال عرضاً من الدنيا.
ونسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعل الآخرة أكبر همنا ومبلغ علمنا، وألا يجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ولا غاية رغبتنا وسؤلنا، ونسأله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يرزقنا علماً نافعاً، وأن يكفينا بحلاله عن حرامه، وأن يغنينا بفضله عمن سواه، إنه واسع الفضل.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.