كيفية الإحرام لمن أراد العمرة بعد المكث في جدة لفترة

Q من سافر من بلده إلى جدة، وكان ناوياً أن يعتمر بعد انتهائه من عمله في جدة، فمن أين يحرم؟

صلى الله عليه وسلم من سافر من المدينة -مثلاً- وعنده حاجة في جدة سافر من أجلها، وفي نيته أن يعتمر، فلا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن يتأكد أن الوقت سيسعه، بحيث إذا انتهى من حاجته سيذهب إلى العمرة قطعاً، فهو متأكد أنه سيفعل العمرة، فهذا يجب عليه أن يعتمر من المدينة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في ذي الحليفة والمواقيت الأخر: (هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن أراد الحج والعمرة) فألزم كل من مر بالميقات يريد الحج والعمرة أن يحرم منه، فدل على وجوب الإحرام من الميقات.

فنقول: يجب عليك أن تحرم من ميقات ذي الحليفة، وأنت بالخيار بين أمرين: - إما أن تحرم وتذهب للعمرة وتأتي بها، ثم ترجع إلى جدة وتقضي حوائجك.

- وإما أن تذهب بعمرتك وتلبس إحرامك وتذهب إلى جدة، وتقضي حوائجك، ثم بعد فراغك من حاجتك تمضي إلى العمرة.

فإن قال: لا أستطيع أن أذهب بإحرامي، فنقول: يذهب ويقضي حاجته، ثم إذا أراد أن يعتمر يرجع إلى ميقات المدينة ويحرم منه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ألزمه بالإحرام منه.

الحالة الثانية: أن يذهب إلى جدة متردداً، يقول: لا أدري هل يسعني الوقت أو لا يسعني، فمثل هذا يجوز له ألا يحرم من ميقات الميدنة مثلاً: شخص عنده معاملة في جدة، ولا يدري هل يسعه الوقت فيعتمر أو لا يسعه؟ فمن يشك في الوقت يجوز له أن يذهب إلى جدة وهو غير محرم ويقضي حاجته في جدة، ثم يحرم من جدة إذا أنشأ العمرة منها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فمن كان دون ذلك؛ فإحرامه من حيث أنشأ).

فهذا الذي لم تتمحض نيته بالعمرة من المدينة وأصبح شاكاً متردداً يعطى حكم الأصل من أنه لا يلزمه الإحرام حتى يتحقق من كونه معتمراً.

وأحب أن أنبه على مسألة حتى لا يضيق الوقت: بعض الإخوة -جزاهم الله خيراً- من حرصه على الدروس والفائدة العلمية يفرغ الدروس في مذكرات، وهذا لا شك أنه خير كثير، فإن من يسمع ويقرأ ويكتب يضبط العلم، والله عز وجل يأجره على حروفه إذا قصد بها وجه الله عز وجل وابتغى ما عند الله.

لكن اطلعت على ما كتبه بعض الإخوان فوجدته يعلق على الأحاديث ويعلق على المسائل، وهذه طريقة عقيمة، ولا أسمح لأحد في أي درس أو محاضرة أن يعلق على دروسي أو محاضراتي إلا بإذني؛ لأنه ربما ذكر دليلاً بإمكاني أن أجيب عنه فيشوش على طالب العلم الذي يقرأ مذكرة بهذا الشكل، فلا يدري هل هو في الحاشية أو في الصلب.

وليس من حق أحد أن يأتي على درس أحد من أجل أن يعقب أو يتكلم، إذا كان عنده شيء يذهب ويحدث درساً فيه علم وفيه فائدة ويبينه، خاصة أن مسائلنا خلافية، وفيها أقوال العلماء، والحمد لله ما شذذنا -ولا نزكي أنفسنا على الله- وقد التزمنا ألا نقول بقول شاذ، ولا نعرف على أنفسنا -ولله الحمد- أننا قلنا قولاً إلا ولنا سلف ولنا حجة من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم.

وبإجماع العلماء أنه من اعتقد رأياً عليه دليل فليس لأحد أن ينازعه ذلك إلا إذا كان طالب العلم عنده نظر وعنده اجتهاد، بحيث يستطيع أن يميز بين قول فلان وفلان بالحجة والدليل.

أما أن يأتي شخص ويأخذ مذكرة الدرس الفلاني ويعلق عليها، فإن كان ضعف حديثاً صححه، أقول: افرض أن هذا التصحيح لا أقتنع به، فما دام الذي شرح الدرس له إلمام بعلم الحديث وعلم الرواية، وله إلمام بالأدلة وله منهج وهو أهل لذلك، وعنده من أهل العلم من رضي له أن يعلِّم، فليس من حق طويلب علم أن يأتي يتعقب؛ لأنه ربما ظن أن هذا الحديث صحيح في اعتقاده وهو ضعيف.

ولذلك لا أسمح بهذا ولا أرضى، وهو خصمي بين يدي الله إذا كان يأتي إلى مذكرة ويعلق فيها برأيه وما يراه.

وإذا كان يريد التعقب يفتح درساً يقرأ فيها ما أقرأناه، ويذكر الحجة والدليل، يسعه ما وسع السلف، وما وجدنا في كتب السلف أحداً جاء وأخذ كتاب شخص لأجل أن يعقب عليه فيصحح ضعيفه ويضعف صحيحه، ويأتي بأقوال لمشايخ آخرين في الهوامش تخالف قول المصنف.

فمثل هذا يحدث البلبلة والتشويش لطلاب العلم، نحن نريد طلب العلم بالطريقة الحكيمة التي سار عليها سلف الأمة، ولا نعتقد أننا معصومون، ونبرأ إلى الله أن نعتقد بأنفسنا عصمة، لكن والله ما نرضى أن أحداً يرد قولنا الذي اعتمدنا عليه بالدليل من الكتاب والسنة بمحض رأيه، أو يأتي يعتقد صواب شيء نعتقد خطأه ويلزمنا خطأه؛ لأنه أجمع العلماء على أنه ليس من حق مجتهد أن يلزم مجتهداً آخر باجتهاده.

ولذلك أجمع العلماء: على أن الرجلين إذا كانا في سفر، وقال أحدهما: القبلة هكذا، وقال الآخر: القبلة هكذا، أنه لا يصلي أحدهما وراء الآخر إلا إذا اعتقد صحة قوله.

فلا يجوز أن يأتي طالب علم نال شيئاً من العلم وحفظ كلمة أو كلمتين -نسأل الله السلامة والعافية- ويأخذ مذكرات ويعقب فيها من وراء حجاب، دون أن يأتي ويقارع بالحجة، ويسأل ويستبين، هذا لا نعرفه من طرق العلم ولا نعرفه من منهج العلم.

وهذا شيء من التعالم، وتكون مذكرة مجهولة لا يعرف من الذي كتبها أصلاً، وبعض العلماء يمنع من قراءة كتاب شخص لا يُعرف لأنه لا تعرف قيمته ولا يعرف هل شهد له أنه أهل، لذلك هذا يشوش فكر طالب العلم.

وليس هذا خاصاً بدروسنا بل مع أي أحد، فأي شيخ له درسه وله علمه وله وزنه وله قدره ينبغي ألا يغير في كلامه ويزاد أو ينقص عليه شيء، وأن ينزل الناس منازلهم، وأن نتقي الله في هذا العلم.

فإذا كان الشخص يرى رجحان قوله بدليل، فليعلم أن الذي خالفه عنده دليل، وأنه إذا كان يرى لنفسه أن يلزم الغير بدليله، فللغير أن يلزمه بدليله، فكما أنك تعتقد هذا القول بالدليل فغيرك كذلك، وقد قرر الإمام الحافظ ابن عبد البر وشيخ الإسلام ابن تيمية والإمام ابن القيم والأئمة -رحمة الله عليهم- ودرج عليه حال السلف: أن كل من كانت عنده أهلية وعُرِف عنه أنه يلتزم دليل الكتاب والسنة في رأيه في الفقه ومسائل الفروع فهو لقوله، حتى يستبين له الحق خلاف قوله.

فالأصل أنه لا يقول قولاً إلا بدليل وحجة، فإن خالفه أحد فلا يخالفه إلا بالحجة، فيأتي ويقارع ويأخذ معه ويعطي، فإما رجع عن قوله، وإما بقي على قوله.

ما عهدنا من السلف أن إماماً جاء من أجل أن يهدم فقه الذي قبله أبداً، إنما وجدنا أن كلاً يعتقد قوله بدليله وحجته، وهذه مسألة قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ كان له أجر واحد) فالحمد لله على هذا الفضل.

فليس من الحق ولا من العدل أن تأتي وتقول بقول وتعتقد ضَعف حديث خالفه، فيأتي إنسان ويشوش على طالب علم عندك ويقول: لا.

بل هناك حديث صحيح وهو كذا وكذا، وهو صحيح عندك وليس بصحيح عندي وأنت ملزم به ولست ملزماً به، فهذا أصل عام.

وأنا لا أسمح بالمناسبة بأي مذكرة أن تخرج إلا بالطريقة المعتبرة وبطريقة رسمية معتبرة، أما بهذه الفوضى وأن كل طالب علم يأتي ويعقب، ويكتب مجاهيل لا نعرف من هم وعمن أخذوا ومَن هم رجالهم وما هي أفكارهم، فهذا لا يُسمح به ولا أرضى به.

والله ما تعلمنا العلم ليهان العلم، ولا تعلمنا العلم ليُرقى على أكتاف العلم، والله لا نقولها غيرةً لأنفسنا؛ لأننا نعلم ونوقن -ولا نزكي أنفسنا على الله- أن عندنا منزلة عند الله، فلا الناس يرفعنا إليها إن رضوا عنها، ولا ينزلوننا عنها إن سخطوا علينا؛ ولكن نريد تقوى الله عز وجل، نريد الكتاب والسنة، وما فهمناه من الكتاب والسنة ألَّا يأتي إنسان بسيط العلم قليل البضاعة يستعجل في شيء يكون هلكةً عليه وعلى غيره، فيَضِل ويُضَل.

فالله! الله! لا تسلم فكرك ولا زمام رأيك في مسألة أياً كانت شرعية إلا ولك حجة ترضاها بينك وبين الله، ولا يسمح لأحد أن يسلك هذا الطريق سواءً في المحاضرات أو في غيرها.

وأي طالب علم جاءته مذكرة ليس عليها توقيعي أو إقراري بالنسبة لي فأنا لا اعترف بهذا، ولذلك أوصي بالإعراض عن مثل هذا.

وأسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يعصمنا من الزلل، وأن يوفقنا في القول والعمل، إنه المرجو والأمل.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015