قال رحمه الله: [ومن ماله قدر دينه أو أكثر لم يحجر عليه] هناك صور للمديونين: الصورة الأولى: أن يكون دينه أقل من ماله.
الصورة الثانية: أن يكون دينه مساوياً لماله.
الصورة الثالثة: أن يكون دينه أكثر من ماله.
هذه ثلاث صور.
أن يكون دينه أكثر من ماله: كرجل عليه دين مائة ألف، والأموال التي عنده من بيت وسيارة وأمور أخرى زائدة عن حاجته الأصلية تقدر بخمسين ألفاً، فهذا دينه أكثر من ماله.
وأما من كان عليه دين مائة ألف، وعنده مال بمائتين أو ثلاثمائة ألف، فماله أكثر من دينه.
ومن ساوى دينه ماله، كرجل عليه دين مائة ألف، وماله الذي عنده يساوي مائة ألف، هذه ثلاث صور.
فأما الذي دينه أقل من ماله؛ فهذا لا يحجر عليه، بل يطالبه القاضي بالسداد بشرطين: الشرط الأول: مماطلته وامتناعه.
والشرط الثاني: شكوى الغرماء.
فالشخص الذي عليه دين أقل من ماله، بمعنى: أنه قادر على السداد، وامتنع عن السداد، واشتكي إلى القاضي، فإن القاضي يطالبه بالسداد ويفرضه عليه إذا كان الدين حالاً وطالب الغرماء.
كرجل أمهل رجلاً إلى نهاية شهر صفر وكان له عليه عشرة آلاف، فلما انتهى شهر صفر كان عنده عشرون ألفاً، فقال: يا فلان! سددني، قال: ما أسددك، انتظر ليس عندي شيء، فهو إما أن يكذب -والعياذ بالله- فيقول: ليس عندي شيء وهو عنده، أو يقول: انتظر وهو قادر على السداد، فلما ماطل رفعه إلى القاضي، فلما اشتكاه إلى القاضي استدعاه القاضي، وتبين أن أجل الدين قد حل -لأنه لو لم يحل أجل الدين كأن يكون إلى نهاية السنة فليس من حقه أن يطالبه، وليس من حق القاضي أن يلزمه بالسداد قبل الأجل- فإذا حل الأجل واشتكى صاحب الدين؛ خيره القاضي بين أمرين: إما أن يسدد، وإما أن يبيع من ماله ما يسدد به أصحاب الدين.
وبعض العلماء يقول: يحبسه ويسجنه حتى يسدد للناس حقوقهم.
قوله: (لم يحجر عليه وأمر بوفائه) هذا إذا كان دينه أقل من ماله (لم يحجر عليه)، يعني: لم يمنع من التصرف في أمواله، ويترك في تجارته وبيعه وشرائه كما هو، ولكن يأمره القاضي بالسداد بالتي هي أحسن، فإن سدد فالحمد لله، وإذا لم يسدد؛ وعظه وزجره وذكره بالله، فإذا طالب الغرماء حبسه حتى يسدد للناس حقوقهم، والدليل على ذلك: قوله عليه الصلاة والسلام: (مطل الغني ظلم يبيح لومه) فدل على أن من منع الناس حقوقهم وهو قادر على السداد، وسأله الناس حقوقهم ولم يعطهم إياها؛ فإنه يعتبر ظالماً، والمظلوم ينصر من ظالمه، والقضاء جعل لنصرة المظلوم من ظالمه.
قال رحمه الله: [فإن أبى حبس بطلب ربه].
إذاً الشرط الأول: أن يكون الدين قد حل.
والشرط الثاني: أن يكون عنده السداد.
والشرط الثالث: أن يطلب أو يشتكي أصحاب الدين.
قال رحمه الله: [فإن أصر ولم يبع ماله؛ باعه الحاكم وقضاه] قلنا: إن سدد فلا إشكال، وإن امتنع من السداد دعاه القاضي وسأله أن يسدد، وذكره بالله، فإن امتنع سجنه، فإن سجنه يوماً ويومين وثلاثة فتضرر أصحاب الحقوق، فإنه يقول له: إذا لم تبادر بسدادهم، سأبيع من مالك ما أسدد به دينك، فلم يبق إلا هذا يلزم به ويكره عليه، ويؤخذ من ماله قهراً، وهذا بيع بالإكراه، لكنه بيع بإكراه بحق، وقد بينّا أن الإكراه إذا كان بحق سرت عليه الأحكام الشرعية ولا يعتبر إكراهاً موجباً لرفع الحكم.
وعلى هذا: فإنه إذا امتنع وأصر بعد سجنه ومنعه، فما على الحاكم إلا أن يقوم ببيع ماله على قدر السداد، فمثلاً: لو كان عنده سيارة قيمتها عشرة آلاف ريال، وعنده عمارة قيمتها -مثلاً- مليون، ودينه عشرة آلاف ريال، فلا ينصرف إلى العمارة ويبيعها عليه، وإنما يبيع سيارته التي تفي بسداد دينه.
وينبغي للقاضي عند حكمه بالبيع ألا يضر بالمدين، بل يؤدي لصاحب الدين دينه، ولا يضر بالمدين كما قال تعالى: {فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة:279] وما شرع لحاجة فإنه يقدر بقدرها، فإذا كان الدين بعشرة آلاف ريال فإننا لا نبيع من ماله إلا بحدود عشرة آلاف ريال، والقاعدة الشرعية تقول: (ما جاز لضرورة وحاجة يقدر بقدرها) فلا يباع إلا بقدر الدين.
قال رحمه الله: [ولا يطالب بمؤجل] هذا من الشروط التي ذكرناها، بمعنى: أنه لو رفعه إلى القاضي واشتكاه، فأول ما ينظر إليه القاضي هل له عليه ديناً فعلاً، فإذا ثبت وأقر أن له عليه ديناً؛ يسأله: هل حل أجل الدين أو لا؟ فإن قال: حل أجل الدين، جرت الأحكام التي ذكرناها، وإن قال: الدين إلى نهاية السنة؛ فإنه يقول لصاحب الدين: اذهب ولا تطالبه إلا في نهاية السنة؛ لأن الذي بينك وبينه من العقد والشرط أن تؤجله، ولا يجوز لك أن تعاجله وتأمره بالتعجيل وقد رضيت بالتأجيل.
فلا يطالب المدين بتعجيل الدين ما دام أن الدين مؤجل إلا إذا رضي بطيبة نفس منه.