قال رحمه الله تعالى: [ولا يصح بعوض عن حد سرقة]: ولا يصح الصلح بعوض عن حد سرقة، وزناً، وخمر ونحو ذلك؛ لأن الحدود فيها حقان: حق للخصم.
وحق لله، فإذا كانت حدوداً فيها حقوق مشتركة يكون فيها حقان.
وإذا كانت حدوداً خالصة فليس فيها إلا حق واحد.
والحدود ستأتي إن شاء الله.
مثلاً: شرب الخمر الحق فيه لله، وفائدة قوله: (إن الحق لله): أن شارب الخمر إذا تاب فإنه يتوب فيما بينه وبين الله، ولا يذهب إلى أحد ويستسمح منه، لكن القاذف إذا قذف امرأة واتهمها بالزنا والعياذ بالله وهو يعلم أنه كاذب فهنا حقان: - حق لله بانتهاك الحد الذي حرمه.
- وحق للمخلوق؛ لأنه دنس عرض هذه المرأة وآذاها في عرضها، فلا توبة له إلا إذا حللته من مظلمتها.
إذاً: حد القذف فيه حقان، وكذا حد السرقة فيه نفس الحكم، فالسارق منتهك لحقين: - حق الله عز وجل بمعصيته وانتهاك حدوده؛ لأن الله حرم عليه أن يسرق مال أخيه المسلم.
- وحق لأخيه المسلم وهو المال الذي أخذه.
فيجب عليه رد المال الذي أخذه، ويجب عليه التوبة فيما بينه وبين الله، هذا من حيث الأصل العام قبل أن ترفع إلى القاضي أما إذا رفعت إلى القاضي وبلغت الحدود السلطان فلعنة الله على الشافع والمشفع، ولو تنازل صاحب المال المسروق لم يسقط الحد؛ لأن صفوان رضي الله عنه وأرضاه كان نائماً بالمسجد وتحته رداؤه، فجاء السارق وسرق رداءه من تحت رأسه، -وكون الرداء تحت الرأس فهذا حرز كما سيأتينا إن شاء الله في باب السرقة، فلما سرقه استيقظ صفوان وأدركه، وارتفعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع يد السارق، فلما علم صفوان أن فيها قطع يد، قال: أسامحه، وقال: هو له يا رسول الله -أي: أشفق على الرجل أن تقطع يده بهذا الرداء- فقال صلى الله عليه وسلم: هلا كان هذا قبل أن تأتيني به؟! فمسألة الصلح عن الحدود والاعتداءات تكون قبل أن تصل إلى السلطان، كالزنا والسرقة والقذف؛ لأنها مشتركة بين حق الله وحق المخلوق، لكن في الحقوق الخالصة كشخص سب شخصاً ولم يصل إلى القذف، كأن قال له: أنت كالبهيمة، أو سبه سباً لا يصل إلى الحد والقذف، فرفعه إلى القاضي يشتكيه، ففيه التعزير، والتعزير فيه الحق للمخلوق، فإن قال للقاضي: سامحته فحينئذٍ يسقط حقه، وقال بعض العلماء: بل يعزره القاضي لانتهاكه حد الله من وجه آخر، وهو أن الله حرم عليه أذية المسلم.
والشاهد: مسألة حق الله وحق المخلوق، ففي السرقة لو سرق مال أخيه المسلم وجاء يريد أن يرفعه إلى القاضي فقال: يا فلان! لا ترفعني إلى القاضي.
فإن قال: بل أرفعك.
فقال له: خذ عشرة آلاف ولا ترفعني إلى القاضي.
فإن أخذ العشرة آلاف، فالعشرة آلاف سحت وحرام لا تحل له؛ لأن الذي يستحقه بالسرقة هو المال المسروق، والزائد عن ذلك ليس ملكاً له، فيأخذ المال المسروق ويستر أخاه المسلم، وليس من حقه أن يأخذ عوضاً على ستره؛ لأن الستر ليس من جنس ما تدخله المعاوضات.
كذلك أيضاً حد القذف: فلو قذف امرأة أو قذف رجلاً فقال: سأرفعك إلى القاضي وكان عنده شهود وبينة، فقال له: أعطيك عشرة آلاف وتتنازل عن قضيتك، فليس من حقه هذا، فإما أن يسامحه وأجره على الله وإما أن يرفعه إلى القاضي، أما أن يأخذ عوضاً بالمال على شيء ليس بمحل للمعاوضة فلا؛ لأن هذه الحقوق ليست بمحل للمعاوضة، وليست بمحل للمقابلة المالية، فحينئذٍ لا يصح أكل المال لقاء هذه.
فقال رحمه الله: [عن سرقة وقذف]: كذلك، وزناً، وشرب خمر.
وإنما ذكر السرقة؛ لأن الحق فيها مشترك، فإذا كان هذا في السرقة الذي فيها الحق المشترك فمن باب أولى في الزنا وشرب الخمر الذي فيه الحق خالصٌ لله عز وجل، وهذا من دقة المصنف رحمه الله أنه نبه على السرقة؛ لأن الحق فيها مشترك بين المخلوق والخالق.