حكم الرجوع عن الإقرار

Q من أقر بأمر فهل يُلزم بإقراره ولا يمكنه التراجع، أم يُستثنى من ذلك كمن أقر بالسرقة ونحوها؟

صلى الله عليه وسلم باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فمن أقر بحق لخصم فإنه يُطالب ويؤاخذ بهذا الإقرار، وهذه المسألة التي وردت في السؤال تُعرف عند العلماء بمسألة الرجوع عن الإقرار.

والرجوع عن الإقرار لا يصح إلا في أحوال مستثناة، ومنها: حالة الإقرار بالحقوق الخاصة لله عز وجل، كأن يقر بالزنا -والعياذ بالله- فلو أنه أقر أنه زنا ثم رجع عن إقراره، فإنه يصح هذا الرجوع، سواء رجع قبل تنفيذ الحكم، أو رجع أثناء تنفيذ الحكم، مثلاً لو أن رجلاً بكراً أقر بالزنا، وثبت عند القاضي، ودوِّن عليه بإقراره أنه زنا، وقبل أن يُنفَّذ عليه حد الزنا رجع عن إقراره، فإن الرجوع ينفعه ويُحكم بذلك، ففي الصحيح من حديث بريدة بن الحصيب رضي الله عنه وأرضاه: (أن ماعز بن مالك رضي الله عنه جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال: يا رسول الله! إني أصبت حداً فطهرني، قال: ويحك! ارجع فاستغفر الله وتب إليه، فرجع غير بعيد، ثم عاد وقال: يا رسول الله! إني أصبت حداً فطهرني، فقال: ويحك! ارجع فاستغفر الله وتب إليه! فكرر أربع مرات، والنبي صلى الله عليه وسلم يُعرض عنه ويدفعه، فلما كانت الرابعة، قال صلى الله عليه وآله وسلم: أشربت خمراً؟ فقام رجل فاستنكهه) يعني: شم رائحة فمه؛ لأنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم شك هل هو عاقل أو ليس بعاقل.

فمن شروط صحة الإقرار أن يكون المقر عاقلاً، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (أشربت خمراً؟ فقام رجل فاستنكهه، فأُخبِر أنه غير سكران، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: أبه جنون؟ فأُخبر أنه ليس بمجنون، فأمر به فرُجم)، فلما أُقيم عليه الحد رضي الله عنه وأرضاه، ورُمي بالحجارة؛ لأنه كان ثيباً، فلما أدركه حر الحجارة فرّ وهرب إلى الحرة، وهي الحرة الشرقية التي تسمى حرّة واقم، شرقي المدينة، فلما فرّ إليها أدركه رجل فضربه وقتله، فلما بلغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه فر، قال: (هلا تركتموه يرجع، فلعله يتوب فيتوب الله عليه)، فأنكر عليهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأنهم لم يتركوه؛ لأنه رجع، فاعتبر فراره بمثابة الرجوع عن إقراره.

فقالوا: إنه إذا أقر بحدٍ كالزنا أو نحوه من حقوق الله الخالصة، فإنه إذا رجع عنه قُبل رجوعه، ولذلك قال صلى الله عليه وآله وسلم: (من ابتلي بشيءٍ من هذه القاذورات فليستتر بستر الله).

فالزنا والجرائم المتعلقة به كاللواط -أعاذنا الله من ذلك- ونحوها من الجرائم الخاصة التي يكون الحق فيها لله عز وجل، وكشرب الخمر ونحوه؛ فإن الأفضل فيها أن يستر الإنسان نفسه بستر الله، وأن يتوب فيما بينه وبين الله، وليس بملزم أن يأتي ويقر ويعترف؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (من ابتلي بشيءٍ من هذه القاذورات فليستتر بستر الله، فإنه من أبدى لنا صفحة وجهه أقمنا عليه حق الله).

لكن إذا كان هناك حق للغير كجرائم السرقة مثلاً، فالسرقة فيها حق المسروق منه، فالتوبة منه أن يتوب فيما بينه وبين الله، وأن يرد المال الذي سرقه إلى صاحبه، فليست التوبة بينه وبين الله فقط، بل هناك حق لآخر.

ففي السرقة لو أقر ثم رجع عن إقراره لم ينفعه الرجوع، فتقطع يده ويؤاخذ بإقراره، ويضمن المبلغ الذي سرقه، فالسرقة ليست من جنس الحقوق التي تقبل الرجوع، وهكذا بالنسبة لحقوق القتل ونحوها من الحقوق التي فيها اتصال بالمخلوقين، فإنه لا يُقبل فيها الرجوع.

وأما بالنسبة لحقوق الله عز وجل الخالصة كما يسميها العلماء رحمهم الله، فإنه ينفع فيها الرجوع عن الإقرار ويفيد، وهكذا لو حصل له خطأ في الإقرار، فرجع إلى القاضي وبين خطأه، وكانت هناك قرائن تدل على صدقه، فإنه يُقبل رجوعه على تفصيل قد يأتي إن شاء الله بيانه في باب الإقرار.

نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا السداد والرشاد.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015