فإذا عرفتَ الحق وأردت أن يتنازل صاحب الحق عن جزءٍ من حقه حتى يقع الصلح؛ فينبغي أن يكون بطريقة مناسبة، وهذا ما أحببت أن أنبه عليه، فلا ينبغي إحراج الناس، وظلم الضعفاء والإضرار بمصالحهم.
في بعض الأحيان يدخل الرجل في صلح بين طرفين، وأحد الطرفين قوي ظالم، والطرف الثاني ضعيف مظلوم، وقد يكون الخصم الضعيف أيتاماً أو أرامل، فيأتي المصلح إلى الضعيف فيستغل نقاط ضعفه، ويضغط عليه من جهة هذه النقاط حتى يتنازل عن بعض حقه، قال بعض العلماء: لا يأمن من يفعل ذلك من الإثم في صلحه.
وهذا ليس بصلح، بل ظلم وجور، وإذا أُصلح بينهم على هذا الوجه فإن هذا يعين الظالم على الظلم، ويجعله يتمادى في ظلمه، واليوم ينتهي من هؤلاء الضعفاء ليقع فيمن هو أضعف منهم، أو في غيرهم، ولذلك كان هذا النوع من الإحراج والإلحاح لا يجوز.
كذلك أيضاً: إذا فرضنا أن عاملاً اشتغل وكد فأصبح له حق عند صاحب العمل، وصاحب العمل رجل غني وثري، وثبت أن هذا العامل له خمسون ألفاًً عند هذا الرجل الثري الغني الذي لا تضره الخمسون الألف شيئاً، وهذا الرجل جلس السنة والسنتين في عمله وكدِّه وتعبه ونصبه، ولربما كان عليه ديون وحقوق للناس، فنأتي إلى العامل ونضغط عليه حتى يتنازل عن جزء من المبلغ، أو عن جملة من حقوقه، ولربما أُخذت أطراف من قرابته وجماعته ممن يستحي منهم، فأُخذت الأموال بسيف الحياء، فمثل هذا لا يبعد أن يبوء صاحبه بالإثم، وهذا ليس بصلح، بل إفساد ومعونة على الإفساد.
فينبغي النظر في أحوال الناس، والنظر في حدود إمكاناتهم وطاقاتهم والأشياء التي يمكن أن يضحوا بها، فما كان في وسعهم سألناهم أن يعفوا، ويكون السؤال بطريقة طيبة مهذبة، لا بطريقة الإلحاح والإزعاج والإحراج، ففي بعض الأحيان يبلغ بالصلح أن الشخص يأخذ أطرافاً أقوياء، لا يمكن أن يرد الشخص شفاعتهم، وفي بعض الأحيان يكون المصلح رجلاً له مكانة وجاه، فإذا جاء إلى ابن عمه وقريبه؛ قال له: طلبتك، وإذا طلبتك فلا تردَّني وهذا الكلام لا يصلح! كيف تطلبني شيئاً فيه إجحاف وإضرار بي، ولربما فيه إجحاف بأهلي وعرضي وزوجي وقرابتي، فهذا لا يصلح وينبغي أن يكون هناك شيء من التعقل والبصيرة، فنعرف ماذا نجني إذا أصلحنا، ولو حصلت غلطة أو هفوة أو زلة من رجل معروف في الصلاح والاستقامة، وأقلناه فمن باب قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم)، أو علمنا أن الرجل غلط ثم ندم، وممكن أن يُصلح، أو كانت الغلطة في إمكان الشخص أن يعفو عنها، فهذا ممكن، لكن أن ندخل بالإجحاف والإحراج فلا.
وأيضاً قد يُختار أشخاص لا يمكن أن يتكلم الإنسان معهم، فقد يأتيه بعمه أو بخاله، فيأتي العم أو الخال ويدخل بكلمات يُحرج بها قريبه، وهذا لا يجوز، وإذا رفض يقول له: أهنتني أمام الناس، ليس لي عندك قدر ولا وجه، فهذا لا ينبغي، ومثل هذه العبارات ينبغي أن تُصرف عن الصلح، وينبغي أن يكون الصلح بشيء من الرضا، فالأخذ بالإحراج لا يجوز، أو أن يستعمِل القوة كأن يكون موظفاً عند مديره، فيأخذ مديره من أجل أن يعفو، فهذا لا يجوز، بل لا يجوز للمدير أن يدخل إذا علم أن في مثل هذا ظلماً؛ لأن هذا إساءة في استخدام مكانة الإنسان، ونعمة الله التي أنعم عليه، فينبغي أن يكون دخول الإنسان بالتي هي أحسن.
ولذلك ثبت في الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في قصة بريرة عندما أُعتِقت فأصبح لها الخيار في البقاء تحت زوجها أو تركه إذا كان عبداً فاختارت بريرة الفسخ، فلقيها النبي صلى الله عليه وآله وسلم فسألها أن تعود لزوجها، فقالت: (يا رسول الله! أتأمرني؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إنما أنا شافع) أي: لا أملك إلا الشفاعة، فما قال لها: من حقي عليك أو أحرجها، بل قال لها: (إنما أنا شافع)، أي: لا أُكرهك على عِشرة لا تريدينها، ولا أُكرهك على شيءٍ لا ترغبين فيه.
وهذا هو الإنصاف والعدل والقسط الذي أمر الله به، ولذلك يقول الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} [الأنفال:1].