مشروعية عقود الاستيثاق

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.

أما بعد: قال رحمه الله: [باب الضمان] هنا ثلاثة أبواب مهمة، الباب الأول: الرهن، الباب الثاني: الضمان، الباب الثالث: الحوالة، وإذا تأملت الأبواب الثلاثة حيث جاءت وراء بعضها، ذكر المصنف الرهن، والرهن متصل بالقروض، فالمناسبة واضحة، وبعد أن فرغ من أحكام الرهن دخل في الضمان، وباب الضمان من أهم الأبواب، وتعم به البلوى، والناس دائماً يسألون عن أحكامه، وهو موجود إلى زماننا اليوم، وهو ما يسمى: بالكفالة: كفالة مال، وكفالة وجه، وكفالة حضور، كل هذه مما تعم بها البلوى حتى في زماننا.

فباب الرهن، وباب الضمان، وباب الحوالة، ثلاثة أبواب توصف في الفقه الإسلامي بأنها عقود استيثاق، يعني: يتوثق بها في الحقوق.

ففي الرهن يستوثق صاحب الحق -المال الذي دفعه، أو العين التي باعها- من حقه بالرهن، وفي الضمان يستوثق صاحب الحق أيضاً بالرجل الكافل، أو الضمين أو الضامن، أو الحميل أو الزعيم، أو الغارم، كلها بمعنىً، يستوثق من حقه، فيقول لك مثلاً: أنا أعطيك مائة ألف، ولكن أعطني كفيلاً، مثلما قال لك: أعطني رهناً، فهنا يقول: أعطني كفيلاً، فهناك استيثاق بالعين، وهنا استيثاق بالأشخاص والذمم، كذلك أيضاً الحوالة فيها نوع استيثاق؛ لأنه إذا عجز عن السداد، فإنه يحيلك على شخص له دين عليه، وقد يكون ليس له دين عليه، فيحيلك لكي تستوثق من حقك وتصل إليه، فهذه ثلاثة أبواب مرتّبة على ترتيب المصنف رحمه الله.

فالضمان والكفالة والزعامة والحمالة، كلها بمعنىً، والضمين والحميل والكفيل والزعيم كله بمعنىً، وإن كان في بعض الأحوال يقع تفصيل، فالضمين الغالب أن يكون ضميناً في الأموال، والكفالة تكون في الأموال وتكون في الوجه وفي الأبدان، فتتكفل بإحضار الشخص، وقد تكون في قصاصٍ أو نحو ذلك، هذا بالنسبة للكفيل، وأما بالنسبة للزعيم، فهو الذي يتحمل الأموال الباهضة، فلا يقال: زعيم إلا إذا كان في شيء باهضاً، مثل شيوخ القبائل، وشيوخ العشائر إذا أصلحوا بين الناس في الخصومات، يقول: أنا زعيم، يعني: أنا أضمن ما وقع من الخطأ من طرف على آخر، هذا بالنسبة للزعيم، ومنه قوله تعالى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف:72]، يعني: أنا به ضمين، وأنا به كفيل، وأنا أتحمّله، هذا بالنسبة للكفالة.

أما فيما يتعلق بالحمالة، فالحميل في لغة العرب في القديم -ولا زال إلى عهد قريب- هو الذي يتحمل الديات، فالحمالة تكون في الديات، وهناك ألفاظ مثل: الصبير، والقبيل، فالصبير والقبيل يشمل هذا كله، يكون صبيراً في الأموال، يكون صبيراً في الأنفس، فيقول: أنا صبير، يعني: الصبير أصله من الشاة المصبورة المحبوسة، كأنها مصبّرة، فكأنه حبس نفسه ورهن نفسه لقاء هذا الحق.

والقبيل يكون نداً ويتحمل، وكان هذا موجوداً ولا يزال إلى زماننا هذا -وإن كان بصورة أقل في زماننا- فحينما كان الخير منتشراً بين الناس كانوا يتحملون، ولا يكون للحمالات ولا للضمانات إلا أهلها الذين عُرِفوا بالكرم وبقوة النفس، وهذا فضل من الله يعطيه من يشاء، ويعتبر مثل هذا من السؤدد.

لولا المشقة ساد الناس كلهم الجود يعدم والإقدام قتال فالسيادة والزعامة في الناس لا تكون إلا ببذل الثمن والتضحية، فكان في الناس من يتحمل ويتكفّل، وتجد فيه شهامة وقوة نفس، وجلَداً من أجل أن يتحمل هذه الحقوق، ولا شك أنها مخاطرة، ولذلك يقولون: أولها ملامة: أي: الناس تلومك، وأوسطها ندامة: أي: إذا انتصفت المدة يبدأ الإنسان يندم، عندما يتكفّل على أحد، وآخرها غرامة: أي: أنه بتحمله وضمانه وكفالته سيغرم، ولذلك لا يقوى على هذا إلا من أعانه الله.

وهذه الأعمال من مكارم الأخلاق ومحاسن العادات، وهي من الشيم المحمودة التي يرفع الله عز وجل أصحابها ويعلي شأنهم في الدنيا والآخرة، ولذلك كم مِن أناس ماتوا وما ماتت مكارمهم، وهم أحياء في مجالس الناس، مع أنهم قد قبروا وماتوا ربما من قرون، ولكن أبقى الله لهم جميل الذكر والثناء الحسن، وبقيت أخبارهم ومآثرهم في قلوب الناس وعلى ألسنتهم جزاءً وفاقاً، وما جزاء الإحسان إلا الإحسان.

والعلماء رحمهم الله، ينصون على فضل الكفالات والضمان، لكن على تفصيل في الحقيقة، ففي بعض الأحيان تكون محمودة ومشكورة، ويكون صاحبها مأجوراً، خاصة إذا قصد بها وجه الله عز وجل، ففي بعض الأحيان يعطيك الله الدنيا ويبسط لك من الرزق فتنظر إلى من هو محتاج قد غرِم في دينٍ معقول ومقبول، كإنسانٍ مثلاً استدان من بقالة لطعام أولاده، ثم حضر وقت القضاء، فتحمل مثلاً خمسمائة ريال، وأنت قادر على السداد عنه، فتقول لصاحب البقالة: أنا ضمين لك بهذا المال، أو أنا كفيل، فإن فعلت ذلك فإن الله يأجرك، خاصة إذا كان على أيتام أو على أرامل أو على ضعفة أو نحو ذلك، فإن الأجر في ذلك عظيم، والدين الذي استدان به الغريم دينٌ شرعي، ومقبول من الناحية الشرعية ومن الناحية العرفية، وهذه الكفالة وهذه الحمالة من أحب القربات إلى الله سبحانه وتعالى؛ ولذلك قال صلى الله عليه وآله وسلم: (من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة)، وقال صلى الله عليه وآله وسلم في نفس الحديث: (والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه)، فمن كان في حوائج الناس في مثل هذه الأمور، وعلم أن فلاناً تحمل الحق فأدى ذلك فهو على خير عظيم، وثوابٍ من الله كريم، لكن إن كان هذا الدين على سفَهٍ وطيشٍ، أو كان على حرام، فإنه إذا تاب إلى الله وأناب إلى الله، وأردت أن تتحمل عنه لاستصلاحه واستقامته، وإرادة الخير له في آخرته، فإن الله يأجرك؛ لأنه إذا تاب وندم فقد عفا الله عما سلف، ومن تاب تاب الله عليه، وحينئذٍ إذا غرِم للناس ديوناً، وكان قد أنفقها في حرام ثم تاب ورجع، وأردت أن تتحمل عنه، فإن هذا فيه تفريج كربة يُقصد منها الخير والإحسان.

وتارةً لا يكون لك بها أجر، وصورتها أن تكون حميَّة وعصبية، وليست حمية دينية، وإنما من أجل أنه قريب لك، أو من أجل أنه أحرجك أو نحو ذلك، فإذا كان من أجل المحاباة والرياء والسمعة، فهذه لا أجر لك فيها ولا وزر، فإذا كان الإنسان يريد بها المفاخرة في الدنيا، أو نحو ذلك، فإن الله عز وجل يعطيه متاع الدنيا، وهذه ليست مما يدخل في التعبديات، ولذلك لا أجر له ولا وزر، ولذلك لا ينال فيها أجر الآخرة لعدم قصد الآخرة، بل ينال فيها عاجل الدنيا؛ لأنه أراد الدنيا.

أما لو كان إنفاقه على وجه أُحرِج به، فمثلاً لو أن قريباً لإنسان جاءه في دين، وأحرجه بأُناس، أو جاء المديون وأدخل عليك بعض القرابة، وأُحرِجت، فأعطيت وأنت مكره، فأنت مأجور وإن كنت مكرهاً، لكن أجرك وأنت راضٍ ليس كأجرك وأنت مكره، لكن تنوي الآخرة، ومن هنا تقاد إلى الجنة بالسلاسل، يعني: بالكره الذي تعرضت له.

وعلى هذا فإن الإنسان إذا أُحرج وهو يحب هذا الخير، لكنه في بعض الأحيان تميل النفوس إلى حب الأموال، فإذا أُحرِج من قبل قريب أو نحو ذلك فدفع فإنه في هذه الحالة يكون أجره أقل ممن يدفع بطيبة نفس، لكن إذا دفع في حال الإحراج من أجل تطييب خواطر من أحرجه، فإنه لا أجر له، فيُفرَّق بين كونه ينفق لله عز وجل، حتى قال الحسن البصري رحمه الله، لما سئل عن الرجل يخرج في جنازة رجل لا يحبه، وإنما خرج من أجل أهل حيه، ومن أجل أن يطيب خواطرهم لما أحرجوه، قال: له أجران، أجر الخروج، وأجر تطييب خواطر جيرانه، فأنت إذا أحرجك قريب، فما فعلت هذا إلا من أجله، وما فعلت هذا إلا من أجل صلة الرحم، ففي مثل هذه الصورة يحصل الخلط والغلط عند بعض الأخيار؛ لأنهم يظنون أن هذا من الرياء، والواقع إن كان السبب الحامل في الأصل المودة والقرابة، فهذه محاباة ولا أجر فيها، لكن كونك أنت تحب هذا العمل الصالح وتفعله وأنت ترجو الثواب من الله، ولكنك أُحرجت ودُفِعت إليه فعجّلت هذا الخير لوجود الإحراج، فإنك تؤجر من الوجهين، أجر العمل نفسه، وأجر تطييب خاطر ابن عمك الذي جاءك في وجهه، أو جاءك في شفاعته، فأحببت أن تكرمه وتصل الرحم، فإنك تؤجر على ذلك، وتكون كفالتك من هذا الوجه أجراً لك في الآخرة.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015