قال رحمه الله: [وكونه عصيراً لا خمراً].
هذه المسألة تُعرَف: بإثبات القيمة ونفي القيمة.
فإنه يشترط في الرهن أن يكون له قيمة، أي: أن يكون مالاً محترماً شرعاً.
فإن قال قائل: ما الدليل على اشتراطك أن يكون الرهن مالاً محترماً؟ فنقول: إن الله عز وجل ما شرع الرهن إلا من أجل أن يُسدد الدين منه، فالحكمة من مشروعية الرهن أنه إذا عجز المديون عن سداد الدين، فإنه يُباع الرهن ويُسدد منه، فمعنى ذلك أنه ينبغي أن يكون الرهن له قيمة، فإذا لم تكن له قيمة فحينئذٍ تفوت الحكمة التي من أجلها شُرِع الرهن، وعلى هذا قال العلماء: يُشترط في الرهن أن يكون مالاً محترماً شرعاً، أي: له قيمة، وكل شيءٍ له قيمة معتبرة شرعاً، فإنه يوصف بكونه مالاً.
مسألة: إذا قال الراهن: أريد منك أن تعطيني ديناً خمسمائة ريال، فقال له: أعطني رهناً، فقال: أرهن عندك هذا (الكرتون) من العصير مثلاً، والعصير له قيمة، فقال له: قبلت، فأخذ العصير ووضعه عنده رهناً، فلما تم حلول الدين وأخذ حقه، ادعى صاحب الدين أنه لم يرهنه عصيراً، وإنما رهنه -والعياذ بالله- خمراً، كأن يكون الراهن كافراً، فالكافر الذمي الذي يكون بين المسلمين، قد يستدين منك وتطالبه برهن، فعندهم الخمر لها قيمة، وفي دينهم وشريعتهم لها قيمة، وإن كان لا يصح من المسلم أن يقبله رهناً، لكن ادعى المسلم أن الراهن سواءً كان مسلماً أو كافراً إنما رهنه خمراً، فإذا ادعى المسلم أنه رهنه خمراً، فحينئذٍ يبقى الإشكال: هل نقبل قول الراهن أو نقبل قول المرتَهِن؟ فإن قبلنا قول الراهن أثبتنا المالية للرهن، وإن قبلنا قول المرتَهِن جعلنا الرهن ذا قيمة، مع أنه خمر لا قيمة له، فالمُرتَهِن يريد أن يفوت الرهن فهو يقول: إنما هو خمر، أو يقول: هو ميتة، أو يقول: هو خنزير، بمعنى أنه شيء لا قيمة له؛ لأن الخمر والميتة والخنزير ونحوها مما لا قيمة له لا يأذن الشرع ببيعه؛ ففي الصحيحين من حديث جابر: (إن الله ورسوله حرم بيع الميتة والخنزير والأصنام)، فلو قال: إنه ميتة، فمعنى ذلك: أنه لا قيمة له.
ومثال ذلك في الميتات: لو قال له: رهنتك شاةً حية، فقال: لا، بل رهنتني شاة محنَّطة ميتة.
فحينئذ المحنط من الميتات -كما سبق بيانه في بيع الميتات- ليس له قيمة، ولا يجوز بيعه ولا شراؤه، إذا كان ميتة غير مذكاة، فلو قال له: محنّط، فمعناه: أنه لا قيمة له، ولو قال له: شاة حية، فإن لها قيمة، أما المحنّط فلا يجوز بيعه ولا شراؤه؛ لأنه ميتةٌ.
وبناءً على ذلك أصبح عندنا قولان: قول يقول: أعطيتك رهناً له قيمة، وهذا القول قول المديون، وهو الراهن، وقولٌ يقول: لم تعطني شيئاً له قيمة، إنما أعطيتني شيئاً لا قيمة له، سواءً كان خمراً أو ميتة أو خنزيراً، فما الحكم؟ هل نقبل قول المديون وهو الراهن، ونطالب الآخر الذي هو المُرتَهِن بالدليل والبيّنة، أو العكس؟ قال المصنِّف: يُقبل قول الراهن في كونه عصيراً لا خمراً؛ لأنك تجد أن الراهن يثبت المالية، وهو حق من حقوقه، والمرتَهِن ينفي المالية؛ لأنه يُسقط عن نفسه تبعة أو مسئولية ضمان الرهن، وعلى هذا يقبل قول الراهن؛ لأن العصير له قيمة، والخمر لا قيمة له، وعلى هذا نطبِّق الضوابط التي ذكرناها.
وقيل من يقول قد كان ادعى ولم يكن لمن عليه يُدَّعَى فكون الراهن قال: رهنتك شيئاً له قيمة، هذا هو معنى قوله: (كونه عصيراً)، والمرتَهِن يقول: بل رهنتني شيئاً لا قيمة له، فأصبح قول الراهن هو المقبول بالإثبات والنفي، فحينئذٍ الأصل إذا نظرت إلى النفي والإثبات قد تقول: إنه إذا قال له: إنه شيءٌ له قيمة، فالمدعي هو الراهن، وإذا قال: لا قيمة له، فالمدعي هو المرتَهِن، فيكون الجواب حينئذٍ: أن الأصل أن من ارتهن فإنه يرتهن شيئاً له قيمة، فتلغي ضابط النفي والإثبات، وتثبت ضابط الأصل؛ لأنه لا يعقل أن إنساناً يقبل رهناً إلا وله قيمة هذا وجه.
وبعض العلماء يقول: لا؛ بل الأصل الأول ثابت؛ لأنه في حالة كونه يقول: إنه خمر، أو كونه عصيراً فيه نفي من وجه وإثبات من وجه، والآخر له نفيٌ من وجه وإثبات من وجه، فتعارض النفي والإثبات ورُجِّح بالأصل؛ لأنه في هذه الحالة لو قال: إنه عصير، فهو يثبت المالية وينفي كونه لا قيمة له، وكذلك أيضاً العكس الآخر يثبت كونه لا قيمة له وينفي المالية.
وعلى هذا صار نفياً من وجه وإثباتاً من وجه، والآخر نفياً من وجه وإثباتاً من وجه، فرجَّح الأصل ما ذكرناه؛ لأن الأصل في الإنسان إذا جاء يرهن فإنه يرهن شيئاً له قيمة؛ لأن الرهن يقصد منه الضمان، وهل يكون الضمان بما فيه مالية أو لا مالية له؟ الضمان لا يكون إلا بما فيه مالية، وعلى هذا اعتضد قول الراهن، وأصبح القول قوله، وليس بقول المرتَهِن.