المسألة الأولى: هل الوديعة المصرفية قرض أو وديعة حقيقية؟ فإن كانت وديعة سنبحثها في باب الودائع، وإن كانت قرضاً فسنبحثها هنا؛ لأننا في باب القرض.
فما هي أنواع الودائع المصرفية، وما هي أحوالها وأمثلتها، وما موقف الشريعة الإسلامية من كل مثال وحالة؟ أما بالنسبة للوديعة المصرفية فصورتها أن يأتي العميل بمبلغ معين قليلاً كان أو كثيراً ويدفعه إلى المصرف، ونحن نعبر بالمصرف؛ لأنها أفصح من عبارة (بنك) وهي أوضح في الدلالة، وإن كان في المصطلح الاقتصادي الموجود اليوم يوجد فرق بين مصطلح البنك وبين مصطلح المصرف، لكن إذا قلنا: مصرفية تشمل المصرف بمعناه أو البنك بمعناه.
الوديعة المصرفية يقوم العميل فيها بوضع مبلغ معين، وهذا المبلغ المعين يكون فيه اتفاق بين المصرف وبين العميل، ففيه طرفان: موُدِع: الذي هو العميل، وموُدَع عنده: الذي هو المصرف، على أن يلتزم المصرف بحفظ هذا المبلغ ويلتزم بأدائه للعميل متى طلبه، لكن في بعض الأحوال يتفقان على مدة معينة كما ذكرنا،
و Q هل وضع مائة ألف مثلاً في المصرف نعتبره وديعة أم قرضاً؟ إن أي مسألة عصرية إذا جئت تبحثها بحثاً فقهياً منهجياً أول ما يجب عليك أن تأخذ الألفاظ وتدرس معانيها، ثم هذه المعاني الموجودة في واقعك ومعيشتك وعُرفك وبيئتك على حسب ما يفهمها الناس أو يتعاملون بها، هل تتفق مع المصطلحات الشرعية أو تختلف؟ فإن قالوا: وديعة، فالعلماء وضعوا للوديعة تعريفاً ومصطلحاً معيناًَ، فطبق المصطلح على الحقيقة والواقع، فإن اتفق أعطيتها حكم الوديعة، وإن اختلف بحثت ما هي حقيقته ولم تغتر بالاسم الظاهر، إذاً: لو جاءوا وسموا معاملة ما بيعاً، فنقول: ما هي حقيقة البيع؟ مبادلة المال بالمال، فهل هذا مال مبادل بمال؟ إذاً: فهو بيع، لكن لو كان منفعة بمال فهو إجارة، فالناس قد يخطئون في التعبير بقصد أو غير قصد.
فالوديعة في الشريعة تقوم على حفظ المال وأدائه بعينه دون تصرف فيه، فإذا جاءك بكيس ووضعه عندك وديعة، فمعناه أنه ينبغي أن تحفظ نفس الكيس وما فيه؛ لأنك أمرت بحفظ هذا الشيء بعينه دون أن تتصرف فيه، قالوا: فلو فتح الكيس انتقلت الوديعة من كونها وديعة إلى كونها قرضاً ويضمن؛ لأن الوديعة تستلزم أن تحفظ المودع بعينه وترده بعينه، فإن أخذ المال بأن أعطاك إياه خمسمائة ريال فأخذت الخمسمائة بعينها ووضعتها في الدرج وقفلت عليها: وكتبت عليها هذه وديعة فلان بن فلان، فجاءك بعد عشر سنين وأعطيته العين نفسها، فهذه وديعة، ولو أنك وضعتها فاحترق الصندوق والبيت واحترقت هذه الفلوس بهذه الطريقة التي لم تتصرف فيها لم تضمن؛ لأن يدك يد أمانة.
إذاً: كل شيء له في الشرع ضوابط، فلا يسير الإنسان على تعبيرات الناس وأهواء الناس، وهذا الفقه عُصارة أذهان أكثر من عشرة قرون، والعلماء يتعبون ويسهرون ويكدحون من أجل إعطاء كل ذي حقٍ حقه، فإذاً: عندما نقول: وديعة فعندنا ضابط معين، وهو أن يستلزم منك ذلك حفظ عين الشيء وأداءه بعينه متى ما طلبه دون مماطلة أو تأخير، فلو أن الإنسان جاء بالعشرة آلاف ووضعها في المصرف فهل يلتزم المصرف بحفظ عين المال ورد العين أم بحفظه ورد مثله؟
صلى الله عليه وسلم رد المثل، ولا يوجد مصرف يأخذ منك عين المال ويرد لك عين المال، وإنما يأخذ ويعطي بدلاً عنه.
ولذلك ينبغي أن نتنبه إلى أن التسمية بالوديعة ليست صحيحة من ناحية شرعية، بل حتى في القوانين الوضعية، وفي العرف الاقتصادي الموجود المعاصر يسمون الودائع المصرفية قروضاً، وإنما سميت وديعة على حسب ما يقصد من هذا، سواءً كانت تسمية ظاهرة أو غير ظاهرة، حتى يقول: إن الوديعة مشروعة، وإذا كانت الوديعة مشروعة في الأصل؛ فإنه يترتب عليها نوع من إضفاء الشرعية على هذا الشيء.
وبناءً على ذلك: لا يمكن أن نحكم بكون الوديعة المصرفية وديعة بمعناها الشرعي الصحيح، حتى نفس العرف الاقتصادي يسلم بأن الودائع قروض، وإذا احترقت المصارف وصار عليها عارض ليس بيدها، فإنها تضمن المال الذي أودع فيها؛ لأنها لا تأخذ حكم الودائع.
إذا ثبت أن الوديعة المصرفية دين فهي قرض، وتكون معنا في الباقي على نفس الدراسة التي درسناها، فأصبحت المعاملة في الحقيقة على أن يدفع له المال ويرد له مثله، هذا من حيث الشكل العام والمضمون العام في الودائع، وإذا ثبت هذا فمعناه أنك تبني عليه جميع الأحكام الشرعية المبنية على القروض، وهذا يستلزم أن نقسم الودائع المصرفية إلى أقسام.