وقوله: [بل يثبت بدله في ذمته حالاً ولو أجله] (بل يثبت) أي: يثبت الدين والضمير في (بدله) عائد إلى الدين، وقوله: (في ذمته) أي: ذمة المديون والذي استقرض، والذمة وصف يقوم بالأشخاص قيام الأوصاف الحسية بمحسوساتها، وهو وصف يقبل الالتزام، فقوله: [في ذمته] أي: أنه لابد وأن يكون الشخص الذي يقترض عنده ذمة قابلة بأن يلتزم بها.
وقوله: [بل يثبت بدله في ذمته حالاً] هذا فيه خلاف.
وقوله: [ولو أجله] ولو: إشارة إلى خلاف مذهبي.
وهذه المسألة نريد أن نبحثها، فمثلاً: لو أن رجلاً أعطاك مائة ألف ديناً، فهذه المائة ألف قلت له: أخذت منك هذه المائة ألف أو آخذ منك هذه المائة ألف ديناً إلى نهاية السنة، فقال لك: قبلت خذها ديناً إلى نهاية السنة، نحن الآن في رمضان، فإذا قبضتها على القول بأن الملكية بمجرد قبضك لها يثبت في ذمتك لصاحب الدين مائة ألف حالة، أي: تدفع فوراً، لو طالبك بها في أي وقت ولو قبل نهاية السنة تدفع، ولو اتفقتما على التأجيل لماذا؟ لأنهم يقولون: القرض كالعارية بدليل أنك لا تملكه إلى الأبد، صحيح أنك لما أخذت المائة ألف تصرفت فيها لكن لا تملكها إلى الأبد، بل تلزم برد مثلها، فإذاًَ: هذا المثلي مملوك لك أم غير مملوك، وبالإجماع إذا قلنا بثبوته على المديون ليس ملكاً له، فمعنى ذلك: أنك إذا أخذت مائة ألف فهي ليست ملكاً لك، إنما ملكت الانتفاع والارتفاق بها إلى الأجل، هذا من حيث الأصل.
فإن قلنا: إنها كالعارية، فلو أن شخصاً أخذ منك السيارة يريد أن يصل بها إلى الحرم المكي ويرجع، فمعنى ذلك: أنه أخذها وردها، وهو ليس مالكاً لها، فإذاً: يقول أصحاب هذا القول من الحنابلة والحنفية رحمهم الله: الدين يثبت في ذمة المديون حالاً ولو أجله صاحب الدين فأعطاه مهلة إلى أجل، ولو قال له: أشترط عليك أن يكون إلى أجل، قالوا: يفسد الشرط ويلغى ويكون وجوده وعدمه على حدٍ سواء، ويلزم لو طالبه في أي وقت أن يعطيه دينه؛ لما يلي: أولاً: أن الدين كالعارية، ومن حقه في أي وقت أن يرجع ويأخذ العارية، فلو أنك أخذت السيارة عارية إلى الحرم فمشيت بها مثلاً مائة متر فلحقك، وقال: أعطني سيارتي، قالوا: من حقه أن يستردها؛ لأنها كالعارية.
ثانياً: أنه إذا قال لك: خذها إلى نهاية السنة فوعد، والوعد ليس بملزم، وإن كان المسلم مطالب أن يفي بوعده، وإلا فإنه يأثم، لكن ما فيه إلزامات مترتبة على هذا الوعد؛ لأنه إحسان وتبرع محض، فقد يعطيك الدين على أنه موسع ثم يرجع عن ذلك فيتذكر حقوقه، والله تعالى يقول: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة:91] والذي بذل الدين محسن، فلو أعطاك قرضاً إلى نهاية السنة وقال: أنا أريد الأجر والثواب ثم جاءه ظرف بعد شهر أو شهرين أو يوم أو ساعة، وقال لك: أعطني الآن فعليك أن تعطيه، وقالوا: يثبت في ذمتك حالاً.
أي: لو أنك تصرفت فيها وطالبك بالدفع فوراً فأصبحت بعد التصرف مباشرة معسراً يثبت في ذمتك حالاً، فليست القضية أن تدفع فوراً إذا كان فيه إمكان، لكن شاهدنا: أن الدين لا يُلزم بإبقائه إلى الأجل، هذا هو الذي درج عليه المصنف واختاره، وهو مذهب الحنفية والحنابلة والشافعية رحمهم الله.
وهناك قول للمالكية واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية والإمام ابن القيم رحمة الله على الجميع، أنه إذا أجله فإنه يلزم بالأجل، وأنه إذا اشترط عليه أن يسدد في رمضان لم يكن من حقه أن يطالبه قبل رمضان، ويلزم بالبقاء إلى نهاية رمضان، وهذا هو الذي تطمئن إليه النفس؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المسلمون على شروطهم) وهذا قد أخذ ديناً، فلو سلمنا أن الدين كالعارية في شبهه، فإننا نقول: يمكن أن نسلم بهذا، لكن لما اشترط عليه ألزم بشرطه، والفرق بين ما اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله والإمام ابن القيم وبين مذهب المالكية: أن شيخ الإسلام يجعله عند الشرط إذا اشترط، والمالكية يقولون: اشترط أو ذكر الأجل فإنه يلزم بالتأخير إلى الأجل، والصحيح أنه إذا اشترط عليه أن يؤجل فليس من حقه أن يطالبه قبل الأجل.
وقوله: [ويثبت في ذمته حالاً ولو أجله] أي: أنه إذا قبض المديون الدين فإنه يملكه، فيجوز له بيعه وهبته وإتلافه؛ لأنه ملكه، فلو أخذ منك دقيقاً وطحنه وعجنه وخبزه فإنه يملكه بقبضه، فعلى هذا يثبت في ذمته مثل الذي أخذ إن تصرف فيه، وإذا لم يتصرف فيه ووجد عين المبيع فمن حقه أن يطالبه بدفع العين، وقيل: يثبت مثله أو بدله، وهذا هو الذي نص عليه المصنف بقوله: [ويثبت].
وقوله: [بل يثبت بدله] البدلية: تستلزم اتحاد الجنس واتحاد النوع واتحاد الصفة واتحاد القدر، وهنا تستلزم المثلية، والمثلية تقوم على اتحاد الجنس: طعام بطعام، واتحاد النوع: بر ببر، واتحاد الصفة: إبل عرابية بعرابية أو بختية ببختية، وبختية ما لها سنامان، والعرابية ما لها سنام واحد، إذاً: يعطيه بصفتها، واتحاد العدد والقدر كأن يأخذ منه مائة ويرد مائة.
فقوله: [يثبت بدله] أي: بدل الدين، ولا يلزم برد العين إن طالبه صاحب الدين، ففي بعض الأحيان يستسلف دنانير ذهب جديدة ويقضيها قديمة، والجديدة أفضل من القديمة، وقد يستسلف خمسمائة دينار كل عشرة دنانير على حدة، مثلاً: بوزنها، والجملة أثقل من الصرف؛ لأن المصروف أفضل، وفي بعض الأحيان الجملة أفضل، فلو أنه أخذها منك خمسمائة فجئت وطالبته بها كان من حقه أن يعطيك بدلاً عنها تفاريق، ولا تقل له: أعطني هذه الخمسمائة.
إذاً: لما قال المصنف: [يثبت بدله] قرر المسألة عند الخلاف إذا تنازعا، فمثلاً: لو استدان رجل منك أي مال من الأموال، ثم تبين أن هذا الرجل في ماله شبهة، فجئت وقلت له: أعطني ديني، وأنت تريد عين ما أخذ منك تورعاً، فحينئذٍ على قوله: [يثبت بدله] ليس من حقك أن تطالب بالعين، وعلى القول: بأنه إذا طالبه بالعين ولو عند نهاية الأجل يثبت عينه إن كان موجود العين، فحينئذٍ يلزم بدفع عينه، ولا يجوز له أن يصرفه إلى المثل والبدل، فلو كان عندك بعير تحبة فجاءك من يطلبه منك، فأعطيته إياه فبقي عنده، ثم بعد ذلك جئت تطالبه وإذا بالبعير عنده، فقال لك: خذ بعيراً مثله، فقلت له: أُريد نفس بعيري.
وعلى هذا أثبت الحق لك بالبدل، إن شاء أعطاك عينه، وإن شاء أعطاك بدله، هذه مسألة البدلية، فقد يكون من الأفضل أن يأخذ الإنسان عيناً وفي بعض الأحيان العكس.
وقوله: [فإن رده المقترض: لزم قبوله] [فإن رده المقترض] إن رد المقترض القرض [لزم] أي: لزم المقرض [قبوله] أي: أخذ المال ولا يجوز له أن يمتنع والضمير في [رده] عائد إلى البدل، فإذا رد البدل لزم المقرض قبول البدل، ولا يقول: أطالب بعين ما دفعت، ولا يطالبه بعين ما دفع، وعلى هذا يقرر المصنف أنه بمجرد قبضه ينتقل الأمر إلى الذمة، وإذا انتقل إلى الذمة سقطت العين، فإذا قلت: ذمة فإنه يصبح مثلياً، وإذا قلت: عيناً فإنه يصبح منحصراً في نفس الدين.
فمثلاً: إذا أقرضت هذا الكتاب فمعناه أننا إذا قلنا: إنه يثبت عين الكتاب إن وجد أو بدله إذا لم يوجد يصبح ليس من حق المقترض أن يلزمك بمثله إن وجد عينه، فينصرف المعين إلى الذمة، أما لو قلنا: إن الواجب عليك المثل، فمعناه أنه في ذمتك، ولذلك قال: [ويثبت بدله في ذمته] ولم يقل: يثبت عينه، فإن لم يثبت عينه فبدله، لا.
إنما يثبت البدل والمثل، والبدلية تستلزم المثلية في الجنس والنوع والعدد والقدر والصفة.